قال لي الجنرال....؟

عكاظ
  • منذ 14 ساعة
  • العراق في العالم
حجم الخط:

حين جلست أمامه في شمال شرق سورية لمرتين متتاليتين، كان المكان صامتاً إلا من صوته الحازم ونظراته التي تخترق التفاصيل، كأن الزمن كله ينتظر أن يسمع ما سيقوله....

قال لي الجنرال مظلوم عبدي كلاماً لم يكن عادياً، بل حديثاً عن وطن يتشكل من رماد الحرب وأشلاء الخرائط الممزقة، وطن يُراد له أن يكون مختلفاً، عادلاً، جامعاً، متحرراً من عقد المركزية والطغيان والتهميش.

لم يكن الجنرال يتحدث عن نصر عسكري أو حدود نفوذ، بل عن فكرة... عن سورية الجديدة، سورية التي ستولد بعد سقوط نظام بشار الأسد. لم يكن متفائلاً على طريقة السياسيين الذين يبيعون الأحلام الجاهزة، بل كان واقعياً لكنه حالم بطريقة المقاتلين الذين دفعوا ثمن الحلم بالدم والعرق والخسارات. قال لي: لن تكون سورية بعد الأسد كما كانت قبله، ولن نعود إلى بلد يُدار بعقلية الإقصاء، حيث تُختزل الدولة بشخص، ويُختزل الشعب بحزب، وتُختزل الحرية بالخوف...!

سألته إن كان يؤمن بإمكانية بناء دولة وطنية في سورية متعددة الأعراق والمذاهب، فابتسم وقال: "نحن لا نحلم بذلك فقط، نحن نعيش هذا النموذج هنا في شمال وشرق سورية. نُجربه، نختبره، وندفع ثمنه يومياً... نحن نقاتل من أجل هذا المعنى، لا من أجل علم أو كرسي، وتابع حديثه قائلاً: إن التنوع في سورية يجب أن يتحول من مصدر للتوتر إلى مصدر للقوة، وإن من يخطط لمستقبل سورية عليه أن يفهم أن زمن القهر المركزي وفرض الهوية الواحدة قد انتهى.

كان حديث الجنرال مظلوم عبدي يخرج من قلب التجربة الميدانية، من خنادق القتال ومن جلسات الحوار ومن الاجتماعات التي جمعته بمختلف المكونات السورية. لم يكن يتحدث عن مشروع انفصال كما يروج البعض، بل كان واضحاً ومباشراً حين قال: سورية بلدنا، ولن ننفصل عنها، ولكننا نريد أن نكون شركاء حقيقيين فيها، لا مجرد تابعين أو هامشيين يُستخدمون وقت الحرب ويُنسَون وقت السلم..

قال لي أيضاً إن قوات سورية الديمقراطية (قسد) ليست مجرد تشكيل عسكري، بل رؤية سياسية وأخلاقية لنموذج مختلف من الحكومة والمجتمع، وردد بحزم.. نحن لا نريد أن نحكم سورية، قالها بوضوح، نريد فقط أن نكون جزءاً من حلها، من مستقبلها، من أمنها واستقرارها، وأن نحظى بما يليق بنا من احترام واعتراف، وحين سألته عن طبيعة هذا المستقبل، أجابني بأن سورية يجب أن تكون لا مركزية، ديمقراطية، قائمة على التعددية والعدالة الاجتماعية وحقوق المرأة وكرامة الإنسان.

لم يكن الجنرال يتحدث بلسان كردي فقط، بل بلسان سوري شامل، مؤمن بأن ما يحدث هنا ليس صراعاً كردياً-عربياً أو مذهبياً، بل صراع بين مشروعين: مشروع يؤمن بأن سورية للجميع، وآخر يريدها حظيرة مغلقة لمن يرفع الولاء فوق الكفاءة والطاعة فوق الانتماء. قال لي: لقد كنا جزءاً من المعركة ضد داعش، وسنكون جزءاً من معركة بناء الدولة السورية القادمة، نحن لم نأتِ من خارج هذا البلد كي نتحدث عن مستقبله، نحن من تربته، من جباله ووديانه وبيادره.

وفي لحظة تأمل، سألته إن كان يخشى من صراع قادم بعد الأسد على شكل الحكم وطبيعة الدولة، فأجابني بهدوء: الصراع قادم، نعم، ولكن السؤال الأهم: هل سيكون صراع بناء أم صراع انتقام؟ نحن نعمل كي يكون صراعاً بنّاءً، حواراً عميقاً بين المكونات، لا تصفية حسابات بين ضحايا الأمس وطغاة قد تفرزهم المرحلة الحالية هنا أو هناك.

قال لي الجنرال إن الفرصة سانحة اليوم أكثر من أي وقت مضى لإعادة تعريف الهوية السورية، بعيداً عن شعارات الخمسينيات ومخلفات الستينيات ومجازر الثمانينيات، واخذ يردد: الجيل الجديد لا يريد أن يعيش أسيراً للذاكرة الملوّثة بالحرب والدمار. يريد أن يرى سوريا حرة، مدنية، تحفظ فيها كرامة الإنسان قبل أن تُرفع فيها الرايات والشعارات...

وحين أنهى حديثه، شعرت أنني لم أكن أمام قائد عسكري فقط، بل أمام مفكر سياسي يحمل بندقية بيد، وكتاب حلم بدولة مدنية عادلة في اليد الأخرى.

خرجت من اللقاء وأنا أردد في داخلي جملة واحدة: قال لي الجنرال... لكن صدى كلماته بقي يتردد كأنها نبوءة قادمة من المستقبل، تخبرنا بأن ما بعد الأسد لن يكون مجرد تغيير في الوجوه، بل في الفكرة... في المعنى... وفي الوطن.



عرض مصدر الخبر



تطبيق موسوعة الرافدين




>