” ربيعة نه ته بيعا ” من ملاحم الجياع 2

ايزيدي 24

” ربيعة نه ته بيعا ” من ملاحم الجياع 2

  • منذ 2 شهر
  • أخبار العراق
حجم الخط:

صلاح رفو  

في منتصف الثمانينات من القرن الماضي بدء العمل بمشروع ري الجزيرة ” المنطقة الشمالية” كخطوة اولية لعمل ملحق ومكمل له يسمى ” مشروع ري المنطقة الشرقية والجنوبية” لمحافظة نينوى ، قيل حينذاك بأنه سيكون اكبر مشروع اروائي زراعي في الشرق الاوسط ، وبالفعل بدات الشركة الصينية وبأشراف عراقي صيني مشترك لتدشين اولى مهام العمل من منظومة انابيب اسمنتية عملاقة ،وطرق ري مبتكرة تلتف لمئات الكيلومترات حول نفسها . توقف العمل في مراحله النهائية بعد غزو صدام للكويت وانسحاب المشاريع الاجنبية من العراق. اثناء تواجد العمالة الصينية في المنطقة، وفي ناحية ربيعة وضواحيها قل عدد الحمير والكلاب السائبة لدرجة كبيرة، اذ كان الاهالي يقايضون بيع تلك الحيوانات مع العمال الصينيين بحاجات بسيطة كأوراق اللعب ومساحيق التجميل ومرطبات البشرة واكسسوارات ولعب اطفال ويقوم العمال بطهي واكل لحوم تلك الحيوانات رخيصة الكلفة. اصبحت المنطقة فيما بعد تلك مسرحاً لأكبر تجمع بشري في العراق من اجل الحصول على لقمة العيش المرة ،والصعبة بسبب الحصار الاقتصادي الذي فُرضَ على العراق، فباتَ اكثر من مليون شخص من سهل نينوى وسنجار وتلعفر يقومون بجهد، ونشاط غير مألوف في زراعة الخضروات الموسمية لبيعها في الاسواق العراقية .

(الايزيديون) كانوا يشكلون العمود الفقري لهذه العملية، فألاغلبية المطلقة كانت تضطر لغلق ابواب بيوتها في ” المجمعات القسرية” وترحل لبناء اكواخ موسمية في ربيعة في اراضي مستأجرة لزراعتها لحين انتهاء الموسم الزراعي ، لتأتي الجرافات لهدمها وتحضير ،وتجهيز تلك الاراضي للموسم القادم. تبدا الاعمال في منتصف شهر اذار بزراعة شتلات الطماطة والرقي والخيار ، وانواع اخرى حسب الخطة الموضوعة لتلك السنة، تمر الاشهر الثلاثة الاولى من الزراعة بجوع وٍتعب وبردٍ وخوف من عدم نجاح النبتات ، كانت تسمى هذه المرحلة حينها وبتهكم بـ”ايام القحط الكبير” على وزن ” ايام الزحف الكبير” الذي سميَ ابان الاستفتاء الذي اجري لأنتخاب صدام حسين رئيساً للجمهورية. لكل شخصٍ اعرفه عشرات القصص ومئات الحكايات التي تضحك المرء ،وتبكيه ،حدثت معظمها في بساتين ربيعة التي خدمت اهالي المنطقة في ان لا يموتوا جوعاً، لكنها كانت تحمل ايضا كل سنة اخبار جديدة عن الوفيات غرقاً ،او لعدم توفر الادوية الطبية اللازمة لأنتشار الامراض الشائعة حينها نتيجة المياه الملوثة ،والحشرات والزواحف السامة، كانت امراض الملاريا _ على وجه الخصوص_والكوليرا والتيفوئيد تفتك سنوياً بالالاف من الناس ،وكانت شوارع مدينة سنجار تفرش صيفاً مئات المرضى يومياً القادمين من ربيعة في انتظار فتح عيادات الاطباء ،وفي السنوات الاخيرة ظهر مرض (الليشمانيا) المعروف بـ” حبة بغداد” التي شوهت وجوه واجسام الكثير من العوائل العاملة هناك لخطورتها وكبر حجمها.

يقول (سربست دخيل) احد خريجي كلية الادارة والاقتصاد ، والذي يعمل حالياً محاسباً في احد متاجر السليمانية ،وقد قضى معظم طفولته هناك في بساتين ربيعة : كبرت وكنت اظن ان المعكرونة و”الشعرية” المحلية التي تشبه ” الاسبكتي” هي عبارة عن لحم غنم ،ولحم دجاج ، هكذا اقنعتني امي ، لكوننا عأئلة كبيرة ومدقعة الفقر ،ولا حيلة لوالدي سوى الزراعة في ربيعة بعد تسرحه من الخدمة العسكرية لعدم توفر ادنى فرص عمل اخرى في المنطقة ، وكذلك لاننا لم نجد اللحم لسنوات في مطبخنا الا في مناسبات قلة لا اتذكرها في الحقيقة، لذا لجئت امي لهذه الحيلة بتسمية هذه الاصناف بهذه الاسماء ،والطريف ان اصدقائنا من الجيران_ والذين يتغيرون كل سنة بسبب تغيير المنطقة المراد زراعتها_ كانوا يحسدوننا كثيراً عندما نسال بعضنا بفضول الاطفال عن ما تغديناه اليوم نحن الاصدقاء، اذ يكون جوابنا نحن الاخوة : مرقة لحم غنم ،او مرقة لحم دجاج مع برغل !، ويضيف سربست ،في احدى السنوات ولكون البيوت الطينية التي نسكنها وقتية فتكون قليلة التكليف والتجهيز والبناء، اذ يوضع اخشاب وعصي قديمة للسطح لتغطينا لأشهر الصيف والتي بنهايته سيُهدم كما هو معلوم، وفي احدى الساعات الاولى لصباحات تموز الحارة وبعد عمل شاق لوالدي في اليوم الفائت في كرد الحشائش من سواقي نبتات الطماطة ،وبين شخيرٍ وزفيرٍ لي ،ولأخوتي الاربعة واذا بالسقف يغورُ بنا الى الغرفة بعد ساعاتٍ نومٍ هنيئة فوق سطح تلك الغرفة المسكينة ،لم يتحرك احد منا من الارهاق والنعاس ،قال والدي بهدوئه المعتاد : هل تأذى احد منكم؟! الجميع اجابوا بالنفي ،فقال بضحكة خافتة : اذن لننام والصباح رباح. عندما انتهت امي من طبخ احدى مرقات اللحم المزعومة في ظهيرة اليوم التالي ،كان والدي وبمعية الجيران قد انهوا من بناء سقف جديد لغرفتنا المتواضعة.



عرض مصدر الخبر



تطبيق موسوعة الرافدين




>