الدعوة الباطنية الحشيشية منطلقاتها وأساليبها

ترك برس
  • منذ 6 شهر
  • العراق في العالم
حجم الخط:
د. علي محمد الصلّابي - خاص ترك برس
منطلقات الحركات الباطنية:
إذا أرادَ الباحث أن يفهم أساليب الدعوةِ الباطنية، وكيفيةَ نشرها يبن الناس، وسرّ انتشارها، ينبغي له الوقوف على طبيعة منطلقاتها العامة التي انطلقت منها أولاً، والتي يمكن تلخيصها بما يأتي:
أ ـ الشمـوليـة:
حاولت الحركة الباطنية تشكيل بنية الفكر الباطني في صور مذهب جامع شامل، يقوم على الجمع والتلفيق بين عقائد شتى ، متنوعة ، ومتباينة في أصولها ، ومصادرها بحيث تجد هوى نفوس جماعات مختلفة في العنصر، والدين من مزدكيين، ومانويين ، وصابئين، ويهود، ومسيحيين، ومسلمين([1]) ، وهي قاعدة فكرية مركبة من شأنها أن تستهوي أناساً من مشاربَ شتى باعتبارها تبشر بحرية الفكر والعقيدة، وتدعو إلى ديانة أممية تزول فيها الفوارق ودواعي الاختلاف، وقد نقلت المصادر جملة من عباراتهم الدالة على هذا المعنى لعل من أكثرها تعبيراً عن ذلكَ قولهم([2]) :
«وينبغي لإخواننا أيّدهم الله أن لا يعادوا علماً من العلوم أو يهجوا كتاباً من الكتب ولا يتعصبوا على مذهب من المذاهب؛ لأن رأينا ومذهبنا يستغرق المذاهب كلها ويجمع العلوم جميعها»([3]) .
ب ـ انتقاء الدعاة:
عملت هذه الحركة على انتقاء الدعاة إلى دعوتهم في حدود مواصفات دقيقة تواضعوا على ضرورة توفرها فيه، إذ هو الأداةُ التي يتوصل بها إلى أفراد المجتمع، والنافذة التي تطل بها الدعوة الباطنية على العالم الخارجي، ومن أبرز الصفات التي ينبغي أن تتوفر في الداعي: أن يكونَ فطناً ذكياً، صحيحَ الحدسِ صادقَ الفراسة متفطناً للبواطن بالنظر إلى الشمائل والظاهر، وأن يكون في أسلوب عملهِ متبعاً لثلاثة أمور:
1 ـ أن يميزَ بينَ من يجوز أن يطمعَ في استدراجهِ بلين عريكته لقبول ما يلقى إليهِ من العقائد والمبادأى المخالفة لما ألفه واعتقد به أصلاً.
2 ـ أن يكون ذكي الخاطر قوي الحدس في القدرة على تعبير الظاهر وردّها إلى البواطن.
3 ـ أن يدرسَ عقيدة المدعو وميله في طبعهِ ومذهبه قبل الإقدامِ على مخاطبته.
ولكي يتمتع الداعي بهذه الصفاتِ لا بد من إعدادهِ إعداداً خاصاً في مدارس معينةٍ تستطيعُ أن تقدم له كل أساليب الحيلة، وصنوف المعرفة، وقد قامت الدولة الفاطمية العبيدية، بإنشاء المدارس السرية الخاصة بإعداد الدعاة، فكانَتْ أُولى هذه المدارس في مدينة المهدية قاعدة الدولة الفاطمية العبيدية في عهد مؤسسها عبيد الله المهدي ، ثم راجت في المنصورية في عهد حفيدة المنصور، ثم في القاهرة في عهد المعزّ ومن جاء بعدهُ
من حكام العبيديين، فكانَتْ هذه المدارس تخرج الدعاة الذين ينبثّون في عامة البلاد الإسلامية، ينشرون هذا المذهب، ويكونون على اتصالٍ دائمٍ بمركزِ الدعوة والدولة([4]) .
ج ـ السرية:
تشكل البنية التنظيمية للجمعيات الباطنية بصورة جمعيات سرية لها درجاتها، ورموزها، ومراتبها، ودعاتها، وقادتها، وأساليب عملها المتقنة، ولهذه الجمعيات السرية عهود، ومواثيق مقدسة واحتفالات دينية تضفي من خلالها على هياكلها التنظيمية معنى القداسة الروحية([5]) ، ويشير ابن النديم إلى هذه السرية عند كلامه على بني القداح أساس البلاء في الحركات الباطنية، بقوله: وقد كان قبل بني القداح قريب ممن يتعصب للمجوس ودولتها، وتجرد لردّها في أوقات، منها بالمجاهرة، ومنها بالحيلة سراً، فأحدثوا لذلكَ في الإسلام حوادث منكرة([6]) وكانت هذه السرية تشمل سرية الوسائل وسرية الأهداف معاً، كما تشمل السرية على رجالات هذه الحركة([7]) ، ويشير الدكتور حسن إبراهيم حسن إلى شدة السرية في الحركة العبيدية([8])  الفاطمية، ولذلكَ امنت معظم الفرق الباطنية باستتار الإمام الذي لا ينبغي أن يتفوه باسمهِ، أو قالت بغيبته، وعدم ظهوره إلاّ حينما يجد الوقت المناسب لذلك([9]) .
د ـ اختيار البيئة الملائمة:
اهتمت الدعوة الباطنية بدراسة البيئة التي تحاول أن تبث فيها أفكارها، وعقائدها وتنشأ فيها تنظيماتها، فكانت تشترط على دعاتها الذين تميزوا بقوة الذكاء وحضور الفطنة، أن يكونوا متوقدي الفراسة في اختيارِ
المناطق التي ينشرون فيها أفكارهم، وانتقاء الشرائح الاجتماعية التي يمكن أن تتقبل دعوتهم، وأن يتميزوا بين من يحوز على ما سمعهُ لا يمكن أن ينتزع من نفسه ما يرسخ فيه، فلا يضعف الداعي كلامه مع مثل هذا، وليقطع طمعهُ منه، وليلتمس من فيه انفعال وتأثر بما يلقى إليهِ من الكلام([10]) ، لذلكَ انتشرت الدعوة الباطنية في البيئات التي يكثر فيها الجهل والضلالات، وبلاد الأعاجم التي جهل عوامهم فيها الإسلام بسبب جهل عوامهم باللغة العربية ورسوخ كثير من الديانات والمذاهب القديمة، كبلاد المشرق، وقد اهتم دعاة الباطنية بهذه الأصناف من الناس في دعوتهم([11]) :
ـ العوام والجهلاء: من أهل السواد وجفاة الأعاجم وسفهاء الأحداث، ممن لم يطلعوا على الإسلام حق الاطلاع، قال الغزالي: ولعل هذا الصنف هم أكبر الناس عدداً، وكيفَ يستبعدُ قبولهم لذلكَ ونحنُ نشاهدُ جماعة في بعض المدائنِ القريبة من البصرة يعبدون أناساً يزعمون أنهم ورثوا الربوبيةَ من ابائهم المعروفين بالشباسية([12]) . وقد اعتقدت طائفة في عليّ ـ رضي اللهُ عَنهُ ـ: أنه إله السموات والأرض رب العالمين([13]) .
ـ الموتورون الحاقدون: من أبناء الأكاسرة، والدهاقين، وأولاد المجوس الذين انقطعت الدولة عن أسلافهم بدولة الإسلام فاستمكن الحقد في صدورهم كالداء الدفين، فإذا ما وجد من يحرّكهُ اشتعلت نيرانهُ في قلوبهم، فأذعنوا لأيّةِ دعوة تشوقهم إلى إدراكِ ثأرهم من المسلمين.
ـ الطامحون إلى التسلط والاستيلاء على مقاليد الأمور من غير كفاءة في أنفسهم، ولا مزية يمتازون بها، ممن يريدون القفز إلى الحكم على أكتاف المضلل بهم من جهلة الناس، ويظهر ذلكَ جلياً من دراسة سير الطامحين الذين قاموا بحركاتٍ مسلحةٍ وقوّادهم، واستمالةِ بعض رجالات الدولة العباسية، كما حدث مع البساسيري.
ـ أدعياء العلم والمعرفة: ممن يعملون على التميز عن عامة الناس ويترفعون عن مشابهتهم، ويزعمون أنهم المطلعون وحدهم على الحقائق، وأن بقية الخلق لا يفهمون من الأمور إلا ظواهرها، فيجتهدون بتعلم هذه المعارف الغريبة مخالفة لبقية الناس([14]) .
ـ أتباع فرق الغلاة ممن شوّهوا الإسلام واعتقدوا فيه اعتقادات ليست منه، وتدينوا بسب الصحابة من المهاجرين والأنصار حيث وجدوا في الحركة الباطنية ما يساعدهم على تحقيق أغراضهم، ونشر مبادئهم الخسيسة.
ـ الملحدون من الفلاسفة والثنوية والمتحيرة في الدين ممن اعتقدوا أن الشرائع قوانين ملفقة، وقد عمل زعماءُ الباطنية على إكرامهم، وغدق ذخائر الأموال عليهم فانحازوا إليها طلباً للدنيا وحطامها، وهؤلاء الذين ألَّفوا لهم الكتب، ولفّقوا الشبه مستخدمين معارفهم في شروط الجدل وحدود المنطق، ودلّوا مكامن التلبيس والمغالطة فيها تحت عبارات كلية، وألفاظ مجملة مبهمة قلما يهتدي الناظر الضعيفُ إلى فك تعقيداتها، وكشف الغطاء عن مكامنها، وتدليسها، بل يقف في كثير من الأحيان معجباً بها، هياباً منها لعدم قدرته على فك رموزها ومعرفة المقصود منها([15]) .
ـ الإباحيون: من استولت عليهم الشهوات، فاستدرجتهم متابعة اللذات، واشتد عليهم وعيد الشرع، وثقلت عليهم تكاليفه، فسارعوا إلى هذه الدعوة، واستحسنوها لتوافق مذهبها مع مذهبهم في هذا المجال، ودافعوا عنها، وحاولوا نشرها بين الناس تحقيقاً لأغراضهم، ونشراً لمبادئهم.
ه ـ طبيعة المرشد الروحي:
يتضح من دراسة تاريخ الحركات الباطنية أن زعماءها، وقادة جمعياتها السرية، وحركاتها المسلحة كانوا في الأغلب الأعم شخصيات تحسن استخدام أساليب الشعوذة، والمخاريق، والتظاهر بالولاية، والتأله، وتضفي على ذاتها سمات المرشد الروحي، الذي يختص بصفات المنقذ الإلهي الموعود، ونظراً لما لهذا الداعي المتزعم من صفات روحية فائقة فليس أمام حشد المريدين، وقطعان الأتباع المقلدين له إلا الدخول في طاعته، والامتثالَ لأوامره، والانصياع لتوجيهاته بلا نظر وتبصر وتحقيق، فيتحولون في الغاية والنهاية إلى أدوات صمّاء جامدة لا إرادة لها، ولا تدبير يحركها الزعيم المتأله الروحي، كما شاء وأراد فهو المطاع الذي تنحسر إزاء إرادتهِ، ومشيئتهِ إرادة الجميع، يفعلون ما يؤمرون بلا عقل أو وعي أو ضمير([16]) .
و ـ التدرج في الدعوة:
قامت الحركات الباطنية على أساس من التشكيلات الهرمية المتدرجة في القيادة ، والمسؤولية ، وكسب المؤيدين والأتباع، وعدم كشف أسرارهم الكبرى إلى كل أحد من الناس إلا بعد تدرّجه في مراتب التنظيم على وفق خطة مدروسة دقيقة يتوقف فيها الداعي مع من يريد كسبه إلى المرحلة التي يراها مناسبة له، ثم يستمر مع من يجد في نفسه قبولاً واستعداداً، فيكشف له أسرار الدعوة الخفيّة في نهاية الأمر بعد أن يكونوا وثقوا به الوثوق كله، وأخذوا عليهِ العهود والمواثيق، وقد ذكر ابن النديم ما يؤيد التدرج في الدعوة الباطنية من خلال كتابهم (البلاغات السبعة)  وهي: كتاب البلاغ الأول للعامة، وقال: وكتاب البلاغ الثاني لفوق هؤلاء قليلاً، وكتاب البلاغ الثالث لمن دخل في المذهب سنة، وكتاب البلاغ الرابع لمن دخل في المذهب سنتين، وكتاب البلاغ الخامس لمن دخل في المذهب ثلاث سنين، وكتاب البلاغ السادس لمن دخل في المذهب أربع سنين، وكتاب البلاغ السابع وفيه نتيجة المذهب، والكشف الأكبر([17]) ، وذكر ابن ا لنديم أن كتب الباطنية كانت شائعة متداولة بين الناس أيام معز الدولة البويهي، وأن الدعاة منبثون في كل صقع وناحية([18]) .

([1])  أصول الإسماعيلية ، ص 194 ـ 195.
([2])  التسلل الباطني في العراق ، مكي خليل ، ص 126.
([3])  رسائل إخوان الصفا ، نقلاً عن التسلل الباطني في العراق ، ص 126.
([4])  عبد الله المهدي ، حسن إبراهيم حسن ، ص 58.
([5])  التسلل الباطني في العراق ، ص 129.
([6])  الفهرست لابن النديم ص 39.
([7])  التسلل الباطني في العراق ، ص 129.
([8])  عبيد الله المهدي ، ص 270 ـ 271.
([9])  التسلل الباطني في العراق ، ص 130.
([10])  المصدر السابق نفسه ، ص 132.
([11])  منسوبة إلى شباس أو ابنِ الذي كان بالبصرة في سنة (450 هـ).
([12])  فضائح الباطنية ، ص 34.
([13])  التسلل الباطني في العراق ، ص 133.
([14])  المصدر السابق نفسه.
([15])  التسلل الباطني في العراق ، ص 135.
([16])  المصدر السابق نفسه ، ص 136.
([17])  التسلل الباطني في العراق ، ص 139.
([18])  المصدر السابق نفسه ، ص 140.


عرض مصدر الخبر



تطبيق موسوعة الرافدين




>