قمع الحريات في العراق بتوجيه خامس وتحت أعين النظام
اتهمت أوساط أكاديمية وحقوقية عراقية، السلطات في بغداد، بانتهاك الدستور والقانون والاعتداء على الحريات في العراق على خلفية منع موظفيها من الإدلاء بآرائهم السياسية أو انتقاد الشخصيات الحكومية والسياسية، مؤكدين أن تلك الممارسات من شأنها الانقلاب على مبادئ الديمقراطية، فضلاً عن أنها تقيد الحريات التي كفلها الدستور.
يأتي ذلك بعدما كشفت وثائق رسمية صادرة عن وزارة التربية العراقية، عن إلزام الموظفين التابعين للوزارة بعدم النشر وإبداء الآراء في الشؤون السياسية أو انتقاد شخصيات سياسية في مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا التوجيه هو الخامس من نوعه بعد إجراءات مماثلة لوزارات أخرى أبرزها الدفاع والداخلية.
وأظهرت وثائق صادرة من وزارة التربية، إلزام موظفي الوزارة بعدم النشر في مواقع التواصل الاجتماعي وانتقاد شخصيات سياسية أو التشهير بها، كونها "ظاهرة غير حضارية وغير أخلاقية"، وتوعدت بمحاسبة الموظفين المخالفين لتلك التعليمات. كما أظهرت الوثائق إلزام الموظفين في وزارة التربية بالتوقيع على تعهدات خطية بعدم نشر أي إساءة أو انتقاد تحت طائلة المعاقبة.
ولم تنفِ وزارة التربية العراقية صحة ما جاء في الوثائق، وقال المتحدث باسم الوزارة كريم السيد في حديث إلى "العربي الجديد" إن الموضوع لم يُعمم رسمياً: "لكن بعد انتشاره في مواقع التواصل الاجتماعي، طُرح للنقاش في الوزارة لاتخاذ قرار بشأن تعميمه على كل المديريات من عدمه".
وفي وقت سابق، منعت وزارات الداخلية والدفاع والتعليم العالي والتخطيط، موظفيها من استخدام وسائل التواصل الاجتماعي في التعرض للأمور السلبية أو انتقاد السياسيين. كما تعرض ناشطون وصحافيون عراقيون للملاحقة القضائية بسبب انتقادات للتقصير الحكومي في ملفات الخدمات، وذلك بناء على دعوات تقدم بها مسؤولون في الدولة، في انتهاك آخر لمشهد الحريات في العراق والعراقيين.
وانقسمت المواقف البرلمانية حول قرار منع الموظفين من توجيه النقد إلى الشخصيات السياسية بين مؤيد ومعارض، إذ أكدت عضو مجلس النواب زليخة إلياس البكار، رفضها لتقييد الحريات، ودعت في تصريحات لـ"العربي الجديد" الوزارات العراقية، باستثناء العسكرية، إلى العدول عن تلك القرارات على اعتبار أنها تستهدف الحريات الخاصة، ولا سيما في المسائل التي لا تحتوي على تجاوزات للنصوص القانونية.
وحذرت البكار من التطبيق غير المنصف للقرارات الوزارية بشأن معاقبة الموظفين المخالفين لتعليماتها واستغلال الموضوع في أغراض الاستهداف الشخصي لبعض الموظفين.
في المقابل، أبدت النائبة زيتون الدليمي تأييدها للقرارات الخاصة بمنع الموظفين من انتقاد الشخصيات السياسية، وقالت الدليمي في حديث إلى "العربي الجديد" إن "قرارات منع الموظفين صدرت في أغلب الوزارات وذلك بسبب الاستخدام السيئ للحريات ولمنصات التواصل الاجتماعي". وأضافت الدليمي أنه "من غير المنطقي أن يتهجم بعض الموظفين على وزرائهم ومسؤوليهم في المؤسسات الحكومية، واعتبار ذلك من الحريات في العراق سواء الشخصية أو حرية الرأي".
الباحث في الشأن العراقي مجاهد الطائي أكد أنه ليس من حق أي دائرة أو مؤسسة تقييد حرية الرأي والتعبير بتعهدات كهذه تصدر للجميع، إلا إذا كان هناك تسريب لمعلومات خاصة بالمؤسسة وتعد أمناً قومياً.
وقال الطائي في حديث لـ"العربي الجديد" إن "من حق كل شخص بوصفه مواطناً وموظفاً إبداء الرأي في القضايا العامة، وهذا أمر كفله الدستور، لكن هناك ميل إلى السلطوية لدى المسؤولين ومن يمتلكون سلطة ونفوذاً وكل سلوكاتهم السلطوية بعيدة عن القانون".
وأشار إلى أنه قبل أشهر أصدر البرلمان لائحة تنظيمية لعمل الصحافيين في مجلس النواب، وهي أيضاً تقييدية وسلطوية يمارسها رئيس البرلمان بالإنابة محسن المندلاوي. ولفت الطائي إلى أن الفوضى والسلطوية في ظل غياب تشريع القوانين التنظيمية، هي سمة هذه المرحلة التي تشهد تناقضاً بين مبادئ الدستور والإجراءات السلطوية.
عضو مفوضية حقوق الإنسان في العراق، علي البياتي، أشار إلى أن سلوك المؤسسات الموجه سياسياً وليس دستورياً يمثّل انحداراً عن أسس الديمقراطية والدستور العراقي. وقال البياتي في حديث إلى "العربي الجديد" إن "الدستور واضح في المادة 38 الذي ينص على حرية الرأي والتعبير والصحافة والطباعة والنشر والتظاهر والاجتماع، في حين فشل البرلمان العراقي بجميع دوراته في تشريع قانون ينظم ويحمي هذه الحريات".
وأضاف أنه "للأسف لم تبق في العراق أي مؤسسة قادرة على حماية الحقوق والمواطن من الطبقة السياسية التي تعبث بكل مقدرات الدولة وتمارس الفساد علناً، وتتباهى بذلك أمام الإعلام، بينما المواطن محروم حتى من انتقاد هذه الطبقة الحاكمة".
ووصف البياتي قرارات تقييد الحريات في العراق للموظفين بـ"الغبية"، لأن الموظف سيلجأ إلى النشر بأسماء مجهولة وسيضاعف من حالة الانتقاد، مشيراً إلى أن منع الموظفين من انتقاد السياسيين لا يسري على التابعين للطبقة السياسية والأحزاب الحاكمة التي تستخدم منصات التواصل الاجتماعي في صراعها السياسي وفضح بعضها بعضاً. وأشار إلى أن موقف القضاء العراقي ضعيف تجاه مصادرة الحريات في العراق وتقييدها؛ إذ لم يتدخل لمنع هذه الخروقات والانتهاكات للدستور ومبادئ النظام الديمقراطي، داعياً إياه إلى متابعة هذا الموضوع ووقف الانتهاكات المتكررة للدستور العراقي.
أما الخبير القانوني أمير الدعمي، فأكد وجود نهج حكومي نحو تقييد الحريات في العراق وتكميم الأفواه، وهو ما سُجل في العراق من خلال اعتقال الصحافيين وإقامة الدعوات القضائية ضد الناشطين وأخذ تعهدات من الموظفين، مشدداً على أن هذا الأمر ينذر بعواقب وخيمة على مبدأ الحريات الذي كفله الدستور.
وقال الدعمي لـ"العربي الجديد إن "هناك من لا يتقبل الرأي الآخر والانتقاد، وهو في صدر المسؤولية، وذلك يعارض الدستور"، مشيراً إلى أن هناك سياسة ممنهجة باتجاه تقييد الحريات وذلك يعد جريمة في حق الدستور، واصفاً موضوع أخذ التعهدات من الموظفين، خاصة في ظل الحكومة الحالية بأنه محاولة لاستعباد الموظفين.
وأعلنت نقابة المعلمين العراقيين رفضها لقرار وزارة التربية، وأشارت إلى أنه يقيد الحريات العامة للموظفين في قطاع التربية. وقال نائب نقيب المعلمين عباس السوداني في حديث مع "العربي الجديد" إن "النقابة ستبحث الموضوع هذا الأسبوع وستفاتح وزارة التربية لإلغاء القرار الذي عمم على جميع الموظفين"، وأضاف أنه "إذا ما كان هناك تجاوز تمارسه الكوادر التربوية، فإن النقابة مع اتخاذ الإجراءات القانونية في حقهم، ولكن توقيع الكوادر التربوية على تعهدات فذلك تقييد للحريات الشخصية، إذ إن حسابات الموظفين على مواقع التواصل الاجتماعي هي حسابات شخصية، ولا علاقة لها بعمل الدولة ومؤسساتها".
وأضافت: أن "فكرة التعميم على الجميع غير صحيحة، فإذا ما كان أحد الموظفين قد ارتكب خطأ فهذا لا يعني أن نعمم الأمر على الجميع، ولا سيما مع وجود أكثر من مليون منتسب في وزارة التربية سيتأثرون سلباً بهذا التعميم".
وتنص المادة 38 من الدستور لعام 2005 على أن "تكفل الدولة، وبما لا يخل بالنظام العام والآداب، حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل، وحرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر، وحرية الاجتماع والتظاهر السلمي"، لكن ما سبق يبقى شعارات لا تطبق في غالب الأحيان، ويمكن التلاعب بها من المسؤولين الحكوميين أو الجهات التي تحاول تسييس القانون وتكميم الأفواه.