في رحلة العودة من المدينة لمكة.. برداء الحج ونيّته.. روح العراقية «رجاحة» تصعد إلى السماء
من أرض الرافدين (العراق)، هفا قلبها عندما نادى المنادي «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك».. وكأن النداء عناها وحدها دون سواها..
الحاجة «رجاحة حمزة»، تسابق الزمن استعجالاً للرحيل، وقد أخذت أهبتها، ولبست إحرامها، داعية نحو السماء «اللهم إن حبسني حابس فمحلي حيث حبستني».. ثم ودعت الأهل والعشيرة في العراق، وقلبها قد تعلّق بالمشاعر المقدسة.. فنادت في خفيض الصوت التزاماً وجهير الحب والشوق صدقاً وابتهالاً: «لبيك اللهم لبيك»..
قطعت فيافي العراق ووهاده، وعين قلبها تسبقها مستشرفة أقدس البقاع وأطهرها، فتتمثل لها مكة المكرمة جنة في الأرض، تطوف بالبيت العتيق، ولسانها لا يتوقف عن الذكر والدعاء والتلبية، ويتراءى لها عرفات الخير، وقد سكبت عنده العبرات، وتشخص في شاشة قلبها منى، وحلاوة المبيت فيها، طاعة وزلفى.. تنظر إلى طيبة الطيبة وقد علت وشمخت، لتقف في الروضة كما يقف المحبون، تصلى صلاة المودعين، وتسلم على الحبيب المصطفى وصاحبيه سلام توقير وإجلال..
كانت الحافلة تقطع الطريق في عجلة المحب، وتؤدة المطمئن سلاماً وأمناً.. وكلما قربت المسافة ارتفع النداء من «رجاحة»، ومن معها في الحافلة.. عبروا منفذ جديدة عرعر عد الحدود الشمالية، وقرب الأمل، وتعالى الحنين..
ها هي الآن في سوح طيبة الطيبة، حيث الأنصار، ومثوى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وآل بيته والصحابة رضوان الله عليهم جميعاً.. فما أجلّ المكان وأقدسه، وما أبرك اللحظة التي وطئت قدماها أرض المسجد النبوي الشريف.. كل شيء تغير في حياتها، فاغتسلت بدموع الفرح، والحمد لله الذي شرفها بزيارة هذه المدينة المباركة الطيبة.. وقفت في خشوع وتأدب لتلقي بالسلام على أشرف الخلق، وسيد الرسل أجمعين، صلى الله عليه وسلم، وعلى صاحبيه رضوان الله عليهما..
ما أعظم تلك الأيام في خاطرها، وهي تتنقل في بطاح المدينة المنوّرة، وتملأ رئتيها من عبق جوّها، ونور ضيائها الباهر.. لحظات روت فيها ظمأ سنين، وشوق عمر، ولهفة أيام.. تنقل لحظاتها وتتقاسم بهجة القدوم إلى الحج مع أسرتها عبر منصتها التواصلية..
ها قد أزفت ساعة الرحيل إلى مكة المكرمة، والمشاعر المقدسة.. تشعر في داخلها بفرح غامر، وشعور غامض.. لازمها طوال مسيرة الطريق من المدينة المنوّرة إلى مكة المكرمة.. وتحول إلى ابتسامة رضا تشع مهابة، جعلت أهل صحبتها إلى الحج، يتناظرون إليها بعين الغبطة، وهم يفتشون في تفاصيل وجهها عن سر ابتسامتها ونضارة وجهها وإشراقه..
في الحافلة مالت على صديقتها تهمس في أذنها: كم بقي من الوقت لنصل إلى مكة المكرمة، لنقف بين الحطيم وزمزم ونبتهل لله الواحد الأحد بسعي مشكور وذنب مغفور؟، وكأنها تستعجل أمراً مسطوراً في لوح القدر، ولا تراه.. كأنها تستندي لحظة محتومة غابت عنها..
يتواصل الحديث بينها وبين صديقتها، في تفاصيل الرحلة، وما ستقدمان عليه من خير وبركات، ورضوان عميم..
حوار لا يقطعه إلا صوت مرافق الرحلة طالباً الهبوط من الحافلة في استراحة قصيرة، لتجمع الحجاج ثم استقلال حافلة أخرى لدخول مكة المكرمة..
ها قد عاد الجميع بعد الاستراحة القصيرة، وصعدوا إلى الحافلة.. ولحظتها كان صوت النداء قد رفّ من الغيب ينادي روحها في رحلة العودة إلى بارئها.. نعم صعدت روحها في تلك اللحظة، فارتبك الجميع، وخفت الطواقم الطبية الموجودة على مدار الساعة تحاول إنقاذها، ولكن الأجل المحتوم قد أحكم أمره، وفارقت الروح الجسد، ولم تبلغ أشواقها مكة المكرمة، فصحّت منها النية التي هي خير من العمل.. كان الجميع ينظر بلهفة لحركات المسعف المتتابعة لإنقاذ روحها، وبعد استكمال المحاولات المعترف بها طبيا رفع المعالج رأسه مردداً الآية الكريمة: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)..
تعالت التكبيرات والحوقلة بين الحجيج، إلا تلك المرأة الطاعنة في السن التي كانت ترافقها في المقعد كانت تبتسم وتنشد: «يا الله خاتمة كهذه الخاتمة».. ثم تنهمر دموعها مودعة رفيقة الرحلة..
في مستشفى الملك فيصل بمكة المكرمة أُودعت جثة «رجاحة»، ولم يذهب الموت بنضارة البسمة في محياها.. أسعدت كل من شاهدها من رفاق الرحلة الذين التفوا حولها وبدأوا يتلقون المواساة والتعازي في مصابهم..
وشيكاً ستُحمل «رجاحة»، وخلال الساعات القادمة لتُدفن بالقرب من أبنائها الأربعة، الذين سبقوها إلى الدار الآخرة.. وستحلّق روحها الطاهرة مع الحجيج، بذات الشوق والتوق، فالنية أصدق، والنفس فنت.. لكن الروح باقية..
هكذا كان الموقف بكل ما فيه من مشاعر متباينة.. كأني بالحاجة العراقية رجاحة حمزة تردد هذه الأبيات:
يا راحلينَ إلى منىً بغيابي
هيجتُموا يومَ الرحيل فؤادي
سرتم وسار دليكم يا وحشتي
والعيس أطربني وصوت الحادي
فإذا وصلتُم سالمينَ فبلّغوا
منّي السلام أهيلَ ذاك الوادي
وتذكّروا عند الطواف متيماً
صبّاً فني بالشوق والإبعادِ
ويلوحُ لي ما بين زمزم والصفا
عند المقام سمعت صوت منادي
ويقول لي يا نائماً جدَّ السُرى
عرفاتُ تجلو كلّ قلبٍ صادي
الناسُ قد حجّوا وقد بلغوا المنى
وأنا حججتُ فما بلغتُ مرادي
حجوا وقد غفر الإلهُ ذنوبَهُم
باتوا بِمُزدَلَفَه بغيرِ تمادِ
لبسوا ثياب البيض منشور الرّضا
وأنا المتيم قد لبست سوادي
يا ربِّ أنت وصلتَهُم وقطَعتني
فبحقِّهِم يا ربّ حل قيادي