لا يوجد انتصار لدولة الاحتلال من أيّ نوعٍ كان.
طالما أنّها اعترفت ضمنياً بأنها هي من قدّمت اقتراحات الصفقة التي قدّمها الرئيس الأميركي جو بايدن، وأنّها هي وبكامل قواها العقلية طلبت من بايدن الإعلان رسمياً عن هذه الاقتراحات، والتي تمثل في نهاية الأمر مشروعاً لصفقة "متكاملة"، فإنّ عليها أن تغادر منطقة المكابرة، وكذلك الإقلاع النهائي عن "الانتصار" الساحق الماحق، والتوقف عن أكاذيب (القضاء على "حماس") أو تفكيكها، وعليها، أيضاً، أن تتحلّى - إذا أرادت أن تخرج من مستنقع الاستنزاف الذي تعيشه على كلّ الجبهات، وعلى كل صعيد - بقدرٍ معيّن من الواقعية بدلاً من الانفكاك التام عن الواقع، والذي كلّفها حتى الآن ما يفوق قدرتها على التحمّل، وعلى الاستمرار في التوهان الذي وصلت إليه.
من حلبة الصراع خرجت دولة الاحتلال مكسورة الأنف، واهنة الذراعَين وضعيفة السرعة والاستجابة، وتبدو متثاقلة للغاية في ردود الأفعال. فقد أُعطيت كلّ الفرص، وكلّ الوقت، وأُعطيت كلّ أنواع الأسلحة، وحصلت على الدعم السياسي في ظروف كان يبدو من المستحيل المراهنة عليها، أو تعليق الآمال عليها، واستنفر "الغرب" كلّه، بكلّ أدواته السياسية والتسليحية، وبكلّ ما يمتلكه من وسائل إعلامية، واستنفرت الولايات المتحدة كلّ ما لديها من وسائل للضغط والابتزاز من أجل أن تتمكّن الدولة العبرية من الادعاء بأنّها انتصرت دون جدوى.
نتحدث هنا عن الوقائع الميدانية، أمّا الخسارات الإستراتيجية الكبرى فهي عميقة وخطيرة ومصيرية في كلّ المجالات.
وإضافةً إلى صورتها ومكانتها ودورها على كلّ المستويات، فإنّ الخسارة التي لحقت بها بلا رجعة حتى المدى المنظور هي خسارة دورها الإقليمي. وخسارة الدور الإقليمي بالنسبة لها خسارة توازي وجودها من زوايا جوهرية عديدة.
لقد كشفت هذه الحرب الإجرامية أنّ دولة الكيان ليست فقط دولة "غربية" الأهداف، واستعمارية الأدوات، وعنصرية المنطلقات، ورجعية الأفكار والمعتقدات، وإنّما فوق هذا كلّه هي "دولة" معادية للإنسانية وتشكّل خطراً على الأمن والسلم الدوليَّين، لا تتردّد في استخدام أكثر الوسائل وحشية وأحطّ الأساليب الهمجية من الزوايا الأخلاقية.
أن تفقد دولة الاحتلال دورها الإقليمي في هذا الإقليم الحيوي من زاوية مصالح واعتبارات "الغرب" الذي أوجدها، ورعاها، وحماها، ومدّها بكلّ وسائل القوّة والتفوُّق، وغطّى عليها، وعلى جرائمها - مع العلم أنّ هذا "الغرب" نفسه هو الذي عرّض يهود أوروبا للمحارق والمجازر والإبادة الجماعية، وهو نفسه الذي طرد اليهود في حملات وموجات منتظمة على مدار أكثر من قرنين كاملَين من التنكيل بهم دون رحمة أو شفقة - فهذا سيعني في قادم العقود أنّ النظام الإقليمي الذي صنعه "الغرب" سينهار بالكامل مع اضمحلال هذه المكانة وهذا الدور، وذلك لأنّ هذا النظام كان قد تمّ تأسيسه منذ "سايكس - بيكو" على الأقلّ للمحافظة على الدور الإقليمي لهذا المشروع الصهيوني بالذات.
وحتى عندما حاولت بعض الأطراف العربية، وكذلك الإقليمية الأخرى التمرّد على هذا النظام أثناء الفترة الناصرية المصرية، وبعض الاتجاهات التقدمية العربية، أو حتى محاولات التمرّد الإيرانية "فترة مصدّق"، وغيرها في عموم الإقليم.. فقد عاد "الغرب" بوسائل جديدة لإعادة صياغة هذا النظام انطلاقاً من "تضخّم" الدور الإقليمي لدولة الاحتلال.
مع انهيار الدور الإقليمي لدولة الاحتلال - بعد أن كان النظام برمّته قائماً على تضخّمها، وعلى تفوّقها، وعلى "أبجدية" هيمنتها على عموم الإقليم - أصبح ما كان يسمّى "الشرق الأوسط الجديد" في مهبّ الرّيح، وأصبح مفهوم "الشرق الأوسط الجديد" الذي عمل عليه "الغرب"، وكانت تتبجّح به الدولة العبرية، وتقدّم نفسها للمحيط الإقليمي على أساسه، وتتعامل مع دول العالم من على أساسه.. أصبح هذا المفهوم اليوم مجرّداً إلى حد كبير من عناصر الهيمنة الإسرائيلية، ومن عناصر التفوّق، والاستعلاء وأصبح "التضخّم" على مدى عدّة عقود خلت، الآن هو العنوان الأوّل في أزمة "الغرب"، خصوصاً أزمة الولايات المتحدة في ترتيب، وإعادة ترتيب هذا الإقليم، الذي طالت المرحلة التاريخية من السيطرة عليه، والهيمنة على مقدّراته، ومن تدمير الدول الوطنية فيه، ومن إعادة هندسة مجتمعاته على أُسس فوق وطنية، خصوصاً مظاهر الطائفية والعرقية والمذهبية والدينية، وغيرها الكثير من عوامل تدمير الوحدة الاجتماعية والوطنية في بلدان الإقليم.
لن تتمكّن أميركا - خصوصاً أنّ النظام الدولي قد شرع بالتغيّر التاريخي الكبير - أن تعيد بناء النظام الإقليمي في هذه المنطقة الحسّاسة من العالم كما كانت تتصوّر، وكما كانت تخطّط قبل اندلاع هذه الحرب الإجرامية.
ولم يعد بإمكانها أن تعيد نفس نظام الهيمنة الذي تعتقد أنّه من طبيعة الأشياء، ومن بديهيات السياسة في هذا الإقليم.
مع الانقلابات الدولية، وتغيّر أولويّات الدول الصاعدة، ومع تعدّد اختيارات الدول بعد أن تأكّد استحالة استمرار نظام القطبية الأوحد في إدارة الشؤون الدولية، لن يكون بإمكان "الغرب" أن يستمرّ بدعم الدولة العبرية، بنفس الحماسة، ونفس القدرات، ولا بنفس الأدوات والأهداف.
سيتعيّن على دولة الاحتلال أن ترمّم وضعها "التاريخي" من جديد، وسيكون عليها أن تختار ما بين العيش في هذا الإقليم بشروط متغيّراته التاريخية الجديدة، أو الاستمرار بلعب الدور العدواني والتوسّعي دون القدرة على فرض الوقائع الملازمة لهذه التوسعية، وهذه العدوانية التي تميّز بها أداؤها في هذا الإقليم.
نحن في الواقع أمام مرحلة جديدة، وقد يكون من الضروري التفكير مليّاً بأنها مرحلة انتقالية تكون بها دولة الاحتلال دولةً تصارع نفسها، وتصارع الإقليم كلّه، وربما مع الكثير الكثير من العالم، وأقاليمه، ومنظماته من أجل ترميم دورها، لتكتشف خلال هذه المرحلة الانتقالية الآن أن صراعها الحقيقي سيكون وجودياً بصورة أو بأخرى، قبل أيّ شيءٍ آخر.
أعرف تمام المعرفة أنّ هذه الاستنتاجات ستبدو متسرّعة إلى حد بعيد.
وأعرف أنّ الكثيرين لم يلحظوا كلّ هذه التغيّرات التي طرأت على الدور والمكانة الإسرائيلية، وعلى قدرة "الغرب" على إعادة ترميم هذا الدور، وهذه المكانة.
لكن الشيء المؤكّد - على كلّ حال - أنّ مراكز الأبحاث "الغربية" بدأت تتحسّس هذه التغيّرات، وهناك عشرات الكتّاب والمثقفين "الغربيّين" ممن باتوا على قناعة أنّ دولة الاحتلال لن تعود أبداً إلى سابق عهدها من الهيمنة والتفوق.
كان أحد أسباب شعور الدولة العبرية بأنّها لن تُهزم هو حالة النظام العربي الواهنة والعاجزة. وهذا الشعور الإسرائيلي الزائف، ليس لأنّ هذا هو حال النظام العربي، وإنّما لأنّ النظام العربي سيدرك أنّ الإقليم يتغيّر، ولكنهم - أي العرب المأخوذين بالهيمنة الأميركية والإسرائيلية - سيكونون على ما يبدو آخر من يفهم هذه المعادلة الجديدة.
على كلّ حال، بعد انتهاء هذه الحرب التدميرية سيكون على دولة الاحتلال أن تكتفي بجائزة ترضية فقط، لأنّها هُزمت، وخسرت بالمعاني الإستراتيجية كلّ شيء سوى روحها في القتل والإجرام والانتقام والتوحُّش وإبادة المدنيين الفلسطينيين، وهذا كلّه لا يؤهّلها للحصول على أكثر من جائزة ترضية من أميركا.