نوري جعفر الجلبي.. عالم النفس العراقي الذي أنصفه الفيصل
سألت صديقي المفكر العراقي المعروف الدكتور رشيد الخيون عن شخصيات عراقية عملت في دول الخليج وتركت بصماتها هناك في مجال تخصصها الأكاديمي، فسرد أسماء كثيرة، قائلاً إنها لشخصيات قديرة ورفيعة المقام في مجالات علمية متنوعة، وإنها نشأت وتعلمت وابتعثت إلى الخارج في حقبة العراق الملكية، ثم عملت واكتسبت خبراتها في ظلها وفي ظل الحكم الجمهوري الأول، قبل أن تقرر الهجرة للعمل في دول الخليج المجاورة هرباً من مضايقات وتهديدات نظام البعث الأول الذي استولى على السلطة في فبراير 1963. ومن الأسماء التي ذكرها الصديق الخيون، المرحوم الدكتور علي جواد الطاهر، مدرس الأجيال وشيخ النقاد وعميد الأدب العراقي (1919 ــ 1996)، الذي سبق أن كتبنا مادة مفصلة عن حياته ومسيرته وآثاره، ولاسيما ما تركه في جامعة الملك سعود بالرياض حينما انتقل إليها سنة 1963 للعمل أستاذاً للغة العربية وآدابها. ومن الأسماء الأخرى التي لفتت نظري، وكنت قد قرأت شيئاً من سيرتها العطرة، البروفيسور نوري جعفر الذي يعد واحداً من قامات العراق الكبيرة في مجال علم النفس، إنْ لم يكن القامة الأبرز والأشهر في مجال تخصصه.
ولقب البروفيسور المرتبط باسمه يستحقه عن جدارة، ولم يأتِه اعتباطاً كما هو حال الكثيرين في أيامنا هذه ممن يضعونه أمام أسمائهم فقط لأنهم بلغوا درجة الأستاذية في جامعاتهم أو لأنه تم منحهم اللقب بتوصية من مجلس أمناء جامعات تجارية يمتلكونها، دون أن يصدروا كتاباً يتيماً أو بحثاً محكماً وحيداً في حقل تخصصهم. ذلك أن نوري جعفر لم يتدرج في المراتب الأكاديمية وصولاً إلى درجة الأستاذية ولقب البروفيسور فقط، ولم يصدر مؤلفات وأبحاثاً علمية محكمة بلغ مجموعها 30 كتاباً وبحثاً فحسب، وإنما برع أيضاً في مجالات عديدة خارج تخصصه، ومارس العمل الأكاديمي في العديد من الجامعات العربية والأجنبية، وتخرج على يده آلاف الطلبة، بل وكان أيضاً خلف تأسيس العديد من أقسام علم النفس بكليات الآداب.
ولد نوري جعفر علي الجلبي في إحدى قرى قضاء القرنة بمحافظة البصرة الجنوبية عام 1914، حينما كانت البصرة ولاية عثمانية، ابناً لأسرة من الفلاحين الفقراء، وفي تلك القرية العراقية النائية تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي إبان أوائل الحكم الملكي. وطبقاً لما نقله موفق الربيعي عن الأستاذ مدني صالح في مقال كتبه الأخير بعنوان «تاريخ أول شبعة وأول جواريب»، فإن نوري جعفر كان يطمح لإكمال دراسته بكلية الطب في بغداد، بعد تخرجه من مدرسته الثانوية بامتياز وتفوق، لكن ما حال دون ذلك هو فقر أسرته وعدم قدرتها على دفع تكاليف الالتحاق بتلك الكلية. وعلى الرغم من ذلك استقل مركباً نهرياً للوصول إلى بغداد، فوصلها مجاناً بعد أن رق قلب صاحب المركب لحاله وتيقن من خواء جيب صاحبنا.
في بغداد، ذهب إلى كلية الطب لتقديم أوراقه، آملاً في أن ترأف الكلية بأحواله وتعفيه من المصاريف بسبب درجاته وتفوقه الدراسي. وهناك قابله عميد كلية الطب «سندرسن باشا» الذي اقترح عليه وأقنعه بالذهاب للدراسة في دار المعلمين العالية. فخرج صاحبنا من مقابلة سندرسن باشا دون أن يحظَ بشيء سوى ملابس جديدة، ووجبة طعام لذيذة أمر الباشا أحد مساعديه لتأمينها بداعي الشفقة على الطالب الفقير القادم من أقصى الجنوب.
دار المعلمين العاليةوهكذا ذهب نوري جعفر إلى دار المعلمين العالية لمقابلة عميدها آنذاك الدكتور «متّى عقراوي» من أجل تقديم أوراقه. وفي هذا السياق قال صاحبنا في حوار أجراه معه الدكتور عبدالكريم راضي جعفر: دخلت على الدكتور عقراوي وأنا رجل قروي جاء ببنطلون لا أعرف شكله والدشداشة داخلة فيه، وربما فكر أنني عامل. قال ما اسمك؟ فذكرت له اسمي. قال ماذا تريد؟ فقلت له: سيدي جئت لأقدم أوراقي إلى الكلية. قال: انتهى موعد القبول. وأضاف نوري قائلاً: «تراجعت.. لكنه نظر إلى درجاتي، فقبلني ورعاني رعاية كبيرة، وتخرجت من الكلية، فكنت الأول على الدورة، كُنا ستة؛ خمسة طلاب وطالبة واحدة». ولهذا ختم مدني صالح مقاله آنف الذكر بعبارة «خسرت كلية الطب عالماً وكسبته دار المعلمين العالية».
وظائف إدارية عدة
تخرج صاحبنا من دار المعلمين العالية بتفوق كعادته، فتم توظيفه في وظائف إدارية عدة تنقل خلالها ما بين البصرة وبغداد، ومنها وظيفة مفتش لمدارس البصرة. وفي منتصف الأربعينات ذهب إلى القاهرة للدراسة بمعهد التربية العالي، ليعود إلى العراق ويحصل في عام 1945 على بعثة دراسية إلى الولايات المتحدة لمدة خمس سنوات لنيل درجتَي الماجستير والدكتوراه في الفلسفة وعلم النفس، من جامعة أوهايو الأمريكية. وإبان ذلك تعرف وارتبط بعلاقة صداقة وطيدة مع الفيلسوف الأمريكي الشهير جون ديوي John Dewey (1859 ــ 1952)، الذي كان وقتذاك متقاعداً عن التدريس فأُعجب كثيراً بسيرة وعلم وجهود هذا المربي والفيلسوف وعالم النفس الذي يعد واحداً من زعماء الفلسفة البراغماتية، بل من أوائل المؤسسين لها. وبلغ إعجابه بديوي أنْ كتب أطروحته للدكتوراه بعنوان «فلسفة جون ديوي التربوية وتطبيقاتها في العراق». وفي عام 1954، أصدر كتاباً عنه بعنوان «جون ديوي، حياته وفلسفته»، وذلك من باب العرفان والوفاء لأستاذه الأمريكي الذي أخذ عنه مفهوم «التواصل» أو علاقة الفرد بالبيئة، لا سيما الطفل، فنوري جعفر كأستاذه لا يؤمن بقدرات العقل التجريدية، إنما يؤمن بأن قدرات الإنسان تنمو عبر اتصال الإنسان بالعالم والطبيعة والمجتمع، لذا هو أميل لربط الرياضيات، رغم بعدها النظري، بعوالم الوجود الطبيعي. ومما يذكر أن الرجل كان مجتهداً إبان سنوات دراسته بجامعة أوهايو، بدليل كشف درجاته التي كانت الجامعة تبعثها شهرياً للسفارة العراقية بواشنطن، فكانت الأخيرة تبعث برسائل شكر إلى الطالب نوري جعفر على تفوقه موقعة من السفير آنذاك علي جودت الأيوبي. والحقيقة أن نوري جعفر لم يكتفِ بما قدمه له جون ديوي من معرفة، وإنما ذهب لتطوير رؤاه وأفكاره بالإفادة من مدارس التربية الروسية والألمانية، لا سيما تقديمه لنظرية العالم الروسي إيفان بافلوف المعروفة بـ«الاقتران الشرطي»، وهي نظرية في التعليم مؤداها أنه يمكن لأي عامل بيئي محايد أن يكتسب القدرة على التأثير في وظائف الجسم الطبيعية والنفسية إذا ما صوحب بعامل آخر مؤثر من شأنه أن يثير فعلاً استجابة منعكسة طبيعية أو إشراطية أخرى.
والحقيقة الثانية، كما يقول موفق الربيعي في مقاله عن الرجل، هي أن نوري جعفر «لم يهتم فقط بنظريات التربية وعلم النفس ببعدها النظري التأملي، لكنه قام أيضاً بدراسة فسلجة الدماغ، وطبيعة الفكر في ضوء العلم الحديث، بل ودراسة الجهاز العصبي المركزي وعلم الفسلجة وعلوم البيولوجيا، ليعرف مقدار العلاقة بين العواطف الإنسانية الفطرية، ورد الفعل المنعكس من الجهاز العصبي، فقدم لنا مجموعة من المؤلفات التي تُعرفنا بهذه النظريات المعاصرة في وقته، ولم يطلع عليها العرب من قبل».
مؤلفات التربية وعلم النفس
من هذه المؤلفات التي تبرهن على علو كعبه في علم التربية وعلم النفس، التربية وفلسفتها (1950)، التاريخ مجاله وفلسفته (1954)، العلوم الطبيعية وأثرها في سير المدنية الحديثة (1955)، فلسفة التربية (1959)، اقتراحات لتطوير التعليم في العراق (1962)، الفكر: طبيعته وتطوره (1970)، الجهاز المركزي العصبي (1971)، اللغة والفكر (1971)، Creativity and Brain Mechanisms (1976)، الأصالة في شعر أبي الطيب المتنبي - أصولها الدماغية وجذورها الاجتماعية في ضوء فسلجة بافلوف (1976)، طبيعة الإنسان في ضوء فسلجة بافلوف الجزء الأول (1977)، التقدم العلمي والتكنولوجي ومضامينه الاجتماعية والتربوية (1978)، طبيعة الإنسان في ضوء فسلجة بافلوف الجزء الثاني (1978)، الأصالة في مجال العلم والفن (1979)، الفكر التربوي الاشتراكي مع آخرين (1981)، الجوانب السايكولوجية في أدب الجاحظ (1981)، آراء ومواقف تربوية ونفسية صائبة في التراث العربي والإسلامي (1982)، دور المؤسسات التربوية في مجال التنمية الاقتصادية في الوطن العربي (1983)، الخيال العلمي في أدب الأطفال (1985)، طبيعة النوم والأحلام في ضوء علوم الدماغ (1986)، رعاية الطفل في الأسرة - مبادئ عامة (1987)، آراء حديثة في تفسير نمو الطفل وتربيته (1987)، الحب بين القلب والدماغ (1987)، أدب قصص الخيال العلمي وعالم الأطفال (1987)، Fundamentals of Neuropsychology Published by Graphic (1988)، مجالات التربية الخاصة (1991).
خروجه من العراق
إلى ما سبق كتب الرجل في مجالات خارج نطاق تخصصه الأكاديمي، خصوصاً أنه كان مغرماً بالأدب والشعر والتاريخ، فأصدر ترجمة كتاب «السلطة والفرد» للفيلسوف البريطاني برتراند رسل (1950)، وقائع تزوير انتخابات النواب (1954)، علي ومناوئوه (1956)، فلسفة الحكم عند الإمام علي (1957)، المبادئ والرجال (1958)، الثورة مقدماتها ونتائجها (1958)، مع الحريري في مقاماته (1986)، كتابان بين الجاحظ وجورج برناردشو وجائزة نوبل (1990).وبالعودة إلى مشوار نوري جعفر الوظيفي بعد نيله الدكتوراه، وعودته إلى العراق من الولايات المتحدة في عام 1949، نجد أنه عُيّن أستاذاً في الجامعات العراقية وشغل منصب مدير الإذاعة العراقية زمن حكومة المرحوم الدكتور محمد فاضل الجمالي الأولى التي تشكلت سنة 1953، كما أنه رشح نفسه في تلك السنة لانتخابات المجلس النيابي. وفي أعقاب الإطاحة بالنظام الملكي في 14 تموز 1958، تم تعيينه مديراً عاماً للتخطيط.أما قصة خروجه من العراق فتعود إلى عام 1964، أي بعد سنة من استلام حزب البعث للسلطة في بغداد على إثر ما عرف بانقلاب شباط 1963 وقيام الانقلابيين الجدد بحملة مضايقة وتهديد لكبار موظفي النظام السابق بسبب الشك في ولائهم. ففي عام 1964 غادر العراق إلى المملكة العربية السعودية للعمل بجامعة أم القرى بمكة المكرمة، فعاش هناك معززاً مكرماً لمدة عام كامل، تولى خلاله تأسيس قسم لعلم النفس ضمن كلية التربية والشريعة، علماً بأن هذا القسم كان الأول من نوعه في تاريخ التعليم الجامعي السعودي، وتمّ تأسيسه آنذاك بهدف تخريج كفاءات جامعية محلية قادرة على تدريس المادة لطلبة المرحلة الثانوية.
السعودية لا تفرط بالقامات العلمية المفيدة
وخلال عمله في السعودية تعرض لمحنة الوشاية به لدى وزارة المعارف السعودية من قبل أكاديميين من مواطنيه العراقيين المنتمين إلى جماعة الإخوان المسلمين، بأنه شيعي من أهل اليسار، وبالتالي لا يصح أن يعمل في بلاد الحرمين. لكن الوزارة ممثلة بوزيرها آنذاك الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ، الذي كان على صلة وثيقة بمليكه الفيصل وينقل إلى جلالته ما يدور في وزارته، تلقى أمراً من الفيصل بعدم الالتفات إلى وشاية الواشين. وانتهى الأمر باستقبال الفيصل للدكتور نوري جعفر كي يوصل له رسالة مفادها أن السعودية لا تفرط بالقامات العلمية المفيدة لأسباب عقائدية. ورداً على موقف الفيصل هذا، واعتزازاً ومحبة للسعودية ووزير معارفها النجدي الذي وقف معه في محنته، أطلق الرجل اسم «نجود» على ابنته، ثم أطلق اسم فيصل على حفيده الأول.
وما بين عام 1965 وعام 1991، قام نوري جعفر بتدريس الفلسفة وعلم النفس في كلية الآداب في بنغازي الليبية (من 1965 حتى 1969)، وفي كلية الآداب بجامعة الرباط المغربية (من 1970 حتى 1973)، وفي جامعة شفيلد البريطانية عام 1974، وفي كلية التربية بجامعة بغداد (من 1975 حتى 1983)، وفي كلية الآداب بجامعة الكويت عام 1977، وفي جامعة مونتريال الكندية عام 1983، وفي جامعة بوردو الأمريكية عام 1984. كما قام بتدريس علم النفس لطلبة الدراسات العليا بجامعة الفاتح الليبية عام 1991.
وكان عمله الأخير بجامعة الفاتح فأل شؤم عليه. إذ قيل إنه في عام 1991 استقل سيارة أجرة كي تنقله إلى مطار طرابلس الغرب للسفر إلى لندن، فظن سائق التاكسي الليبي أن شنط الرجل محملة بالأموال. وهكذا بدلاً من أن ينقله إلى المطار قتله، فلم يجد في الحقائب إلا كتباً. لكن ابن أخيه الوحيد الدكتور عبدالكريم راضي جعفر أنكر تلك الواقعة وأخبرنا أن عمه تُوفي بسبب مضاعفات أنفلونزا حادة في 7 نوفمبر 1991، أثناء عمله في ليبيا ودُفن بها.