سأحاول في هذا المقال إلقاء الضوء على خطة إسرائيلية خطيرة يجري تنفيذها على فسيفساء المجتمع الفلسطيني، في مجالات غير سياسية، وهي الأهم مثل؛ أثر حرب الإبادة على النسيج المجتمعي الفلسطيني وأثرها على التجارة والاقتصاد، ونتائج تدمير غزة بلد التراث والتاريخ ومحو كل مقتنياتها الأثرية، وكارثة إزالة المراكز الثقافية والفنية وتشتيت شمل المثقفين والفنانين، وتضييق الخناق على حياتهم!
هذه الخطة على نسيج المجتمع الفلسطيني بدأت أعراضُها تظهر بالفعل في مخيمات اللجوء، حين أقدمت عائلاتٌ كثيرة تحتمي خلف القوقعة القبلية، إلى استخدام السلاح والقتل لإبراز سطوتها القبلية، ويعود السبب في ذلك إلى غياب السلطة والقانون وإلى انتشار المجاعة وما يتبع ذلك من مضاعفات تفريغ السجون من القتلة والمجرمين، وعودة الثارات القبلية المعلبة، بالإضافة إلى توفر الأسلحة الموجودة عند رجال الأحزاب واستخدامها في مجال الهيمنة الأسرية والقبلية!
إن مخطط الاحتراب بين الأسر والقبائل يقع ضمن خطة المحتلين الغاصبين، منذ زمن بعيد، وقد برع المحتلون في وضع أسس هذا الاحتراب منذ الاحتلال لغرض تفكيك النسيج الاجتماعي الفلسطيني الصلب الأصيل، وتغيير بنيته الاجتماعية والثقافية!
مع العلم أن المحتلين نفذوا هذا الاحتراب الداخلي، بين الفلسطينيين الصامدين منذ عام 1948، فهم قد غضوا الطرف وشجعوا عصابات الإجرام الحاصدة للأرواح يوميا في المجتمع الفلسطيني! بالإضافة إلى ذلك ما يحدث في الضفة الغربية من نزاعات قبلية متعددة الأشكال والألوان!
ظل الفلسطينيون طوال تاريخهم بعيدين عن الحروب الأهلية والطائفية، وكان ذلك مصدر قوتهم وصلابتهم، كما أنهم كانوا بعيدين عن النزاعات العرقية، لأن فلسطين ظلت بلدا يستقطب كل الأعراق بلا تمييز، بل إن الفلسطينيين كانوا يسعدون باستقطاب المختلفين عنهم دينياً وعرقياً ويولونهم المناصب لاكتساب الخبرات، فحين شكل المجلس التشريعي الفلسطيني الأول عام 1996 انتخب الفلسطينيون من يمثل طائفة السامريين وهم بنو إسرائيل الأصليون الذين لم يهاجروا، هم يعيشون بين إخوتهم الفلسطينيين بأمان في نابلس ويشاركون في كل مجالات الحياة، انتخب سلوم عمران إسحق الكاهن عضواً في المجلس التشريعي الفلسطيني، تُوفي في 9 شباط 2004 في نابلس وهو يشغل منصب الكاهن الأكبر للطائفة!
حاول المحتلون بذر الشقاق وسط الفلسطينيين بوسائل عديدة، أولها إصدار هويات مختلفة الأشكال والألوان، والتمييز بين الفلسطينيين سكان القدس، وبين إخوتهم في الضفة الغربية، ولكنهم لم يحققوا أهدافهم، فقد ظلت فلسطينيتهم هي الجامعة الموحدة! كذلك فعلوا حين شقوا الصف الفلسطيني الصامد منذ عام 1948 وقسموهم إلى عرب ودروز وبدو ومسيحيين وأطلقوا عليهم اسم عرب إسرائيل لمحو فلسطينيتهم!
سأظل أذكر ملفاً حاولت أن أتابعه منذ سنوات بعيدة عن بعض الفلسطينيين ممن ترجع أصولهم إلى عرقيات مختلفة، فقد نشرت وكالةُ أسوشيتد برس تحقيقاً صحافياً عن الفلسطينيين الإفريقيين يوم 12-1-2017 وأشارت فيه إلى أن جذورهم إفريقية، وأن الفلسطينيين يسمونهم احتقاراً (العبيد)! وأنهم لا يزوجونهم فلسطينيات من ذوات البشرة البيضاء! أشار التحقيق إلى أن أجدادهم جاؤوا من إفريقيا كحُجَّاج، ثم أقاموا في القدس، فهم من بقايا الجيش الذي غزا القدس، زمن المماليك، والأتراك! لم ينتهِ التحقيقُ إلا بعد أن ربطهم بالإرهاب، أشار التقرير أيضاً إلى قصة المناضلة السجينة من أصول إفريقية، فاطمة برناوي، التي حاولتْ تفجير قنبلة في دار السينما عام 1967، وسرد تفاصيل حياتها، وأنها حصلت على رتبة لواء في الشرطة الفلسطينية!
كتبتُ رسالةَ احتجاجٍ في ذلك التاريخ لوكالة أنباء أسوشيتد برس وطالبتها أن تكون منصفة وتعمل تحقيقاً عن طائفة الفلاشاه الإفريقية في إسرائيل، وعن التمييز ضدهم فهم محرومون من أبسط مظاهر الحياة، حتى أن نجمة داود الحمراء وهي أكبر قطاع للإسعاف والصحة في إسرائيل لا تقبل أن يتبرع الإثيوبيون بدمائهم، لأن دماءهم وفق العنصرية دماءٌ ملوثة، وهذا ما دفع عضو الكنيست عن حزب العمل، أديسو ماسالا، وهو من طائفة الفلاشاه إلى أن يعود إلى إثيوبيا ورفض البقاء في إسرائيل بسبب تلك العنصرية، لكن، اسوشيتد برس، وهي الوكالة الإعلامية الكبيرة تجاهلت رسالتي!
وأذكر أيضاً ملفاً آخر نشرته صحف إسرائيل عام 2012 عن طائفة الغجر الفلسطينيين، أشارت الصحف إلى أنهم يعيشون في البلدة القديمة يتوزعون بين القدس، ومخيم شعفاط، وغزة، يُقدر عددهم بأكثر من ألفين، أبرزت الصحف أنهم منبوذون من الفلسطينيين، على الرغم من انهم لم يعانوا من التمييز والعنصرية، وأنهم اندمجوا في المجتمع الفلسطيني منذ سنوات طويلة!
بدأت خطة فصلهم عن المجتمع الفلسطيني برئيس بلدية القدس، نير بركات وهو اعتاد على زيارتهم، وإمدادهم بالمعونات الغذائية والطبية، هذه المعونات دفعتْ أحد وجهائهم، أن يطلب هوية إسرائيل، وليس الهوية الفلسطينية!
إنَّ هذه الفسيفساء العرقية الفلسطينية هي مِن أروع أسلحة النضال في عصرنا الراهن، لأنها تؤشِّر على مبدأ التعددية والحرية والحق والعدل، بالإضافة إلى أنها دليل على أصالتنا، نحن الفلسطينيين، فنحن لسنا ضد تعدد الأديان والأعراق، بل ضد المعتدي الغازي المحتل.
إن المقاومة الحقيقية الصادقة لا يمكن أن تضحي بكل بُنية المجتمع الفلسطيني، وتترك أنصارها مشردين عراة في الخيام، يموتون جوعاً وعطشاً، وتغض الطرف عن تجار السوق السوداء الجشعين، ولا تحاسب القتلة والمجرمين. إن أبسط أبجديات مفهوم المقاومة والصمود وضع الأولويات لحفظ أمن هذا المجتمع، وتنفيذ خطط الصمود قبل الشروع في معركة غير متكافئة، لها نتائج كارثية على المجتمع الفلسطيني، تعيده إلى العصر الجاهلي، تفكك نسيجه، وتحتاج إلى سنوات طويلة من العلاج!