د. سمير صالحة - أساس ميديا
هل يكفي أن تتفاهم أنقرة مع دمشق لتنتهي أزمة سوريا وشعبها؟ لا طبعاً. المسألة أكثر تعقيداً من الخلافات الثنائية بين الجانبين. لكنّ المشجّع هذه المرّة هو الرغبة الإقليمية المتزايدة باتّجاه دعم حوار من هذا النوع يسهّل طريق الحلحلة والتسويات في سوريا.
سُئل الرئيس السوري بشار الأسد وهو يدلي بصوته في الانتخابات البرلمانية عن رأيه في العروض التركية المتواصلة التي تدعوه إلى الحوار والتفاهم، فألقى محاضرة في الفلسفة السياسية والقانون الدولي والدبلوماسية المعاصرة، هدفها هو الانتقام من سياسة تركيا السوريّة بعد عام 2011 أكثر من أن يعلن استعداده لتلبية الدعوة إلى الحوار.
مشكلتنا في الإعلام التركي هي أنّنا سنأخذ ما يناسبنا من ردود الأسد ونتجاهل بقيّة “نصائحه وتحليلاته واستنتاجاته” حول ما يريد من أنقرة وكيف يرى مسار ومستقبل العلاقات التركية السورية.
هو يحسم أوّلاً مسألة مشروعيّته في الحكم عندما اختار التحدّث وهو أمام الصناديق “كأعلى سلطة سياسية” توجّه كلامها لأعلى سلطة في الجانب الآخر. هو يتحدّث مع إردوغان “كرئيسين في دولتين جارتين”، وبالتالي يحاصر أنقرة في مسألة أنّ الرئيس السوري هو الذي سيكون أمام طاولة الحوار.
يقول الأسد: “نحن إيجابيون تجاه أيّ مبادرة لتحسين العلاقات مع تركيا. نحن نسعى إلى عمل يحقّق نتائج. لسنا ضدّ عقد لقاء، لكنّ المهمّ أن نصل إلى نتائج إيجابية تحقّق مصلحة سوريا وتركيا”. ثمّ يضيف إلى كلّ ذلك نقلته الأهمّ أمام المرمى التركي والكرة على مقربة منه: “لا شروط أو مطالب مسبقة، بل قواعد ومرجعيات ومتطلّبات لا بدّ منها قبل الذهاب إلى الطاولة. أيّ تقارب يجب أن يستند إلى احترام السيادة ووحدة الأراضي ومكافحة الإرهاب، مع انسحاب القوات غير الشرعية من سوريا”.
هل تسحب تركيا قوّاتها من سوريا؟
بعد ساعات على تصريحات الرئيس السوري جدّد وزير الدفاع التركي يشار غولر قوله إنّه لا أطماع لتركيا في أراضي الغير، وإنّ ما تريده بلاده هو القضاء على المجموعات الإرهابية في سوريا والعراق التي تهدّد أمن تركيا وتوتّر العلاقة مع دول الجوار. لكنّ غولر لا يتراجع عن قوله إنّه “لا يمكن تصوّر مغادرة سوريا دون ضمان أمن حدود تركيا”.
لم تتمكّن أنقرة من أخذ ما تريده حتى الآن في موضوع المنطقة الآمنة والعازلة في شمال سوريا التي تسهّل عودة مئات الآلاف من اللاجئين السوريين. لكنّها ليست جاهزة للإصغاء إلى من يطالبها بمغادرة الأراضي السورية وسط خريطة ميدانية سياسية بالغة الغموض والتعقيد.
يعرف إردوغان كما يعرف الأسد أنّ هناك أكثر من لاعب محلّي وإقليمي يدعمون اليوم خطوة الحوار بينهما. لكنّهما يدركان أيضاً أنّ هناك من سيبحث عن فرص عرقلة الحوار والتقارب بينهما.
لماذا يريد الطرفان “التّطبيع”؟
تخرج أسئلة كثيرة هنا: ما الذي تعنيه الرسائل الأخيرة المتبادلة بين الجانبين؟ وهل هي نهاية التفاؤل الذي أبداه البعض باتّجاه الحلحلة في ملفّ الأزمة السورية؟ ولماذا دعت القيادات التركيّة روسيا وأميركا وإيران إلى دعم المسار الجديد في هذا الحوار على الرغم من الدور الروسي في رعاية المسار الجديد؟ وهل هناك أيّ تراجع في زخم موسكو بعد دخول بغداد على الخطّ بدعم عربي يواجه النفوذ الإيراني؟ وكيف سيتمّ التعامل مع توقيت زيارة وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان لإسطنبول في نهاية الأسبوع المنصرم واجتماعه بالرئيس التركي ووزير خارجيّته؟ وما هو الشقّ السوري فيها؟ وما الذي يجمع بين تصريحات أحد قادة ميليشيات إيران في العراق قيس الخزعلي ومواقف أحد القادة الأكراد، بافل طالباني، في السليمانية، وبين تنقّلات كوادر المعارضة السورية القريبة من الولايات المتحدة الأميركية، “قسد”، على هذا الخطّ الحدودي، غير تمسّك طهران بمحور تقاطع الجغرافيا العراقية والسورية هناك؟
لم يعد صعباً تحديد أسباب رغبة أنقرة في التطبيع مع دمشق. وهذا ما ينطبق أيضاً على الجانب السوري. غالبية هذه الأسباب هي داخلية وخارجية ذات طابع سياسي وأمنيّ واقتصادي تلتقي فيها المصالح والحسابات الثنائية والعربية والروسية. وأهمّها:
الإرهاب الناشط في سوريا.
أعباء وارتدادات ملفّ اللجوء على دول الجوار السوري.
تمسّك واشنطن بلعب ورقة الحكم الذاتي الكردي تحت ذريعة محاربة داعش.
إصرار طهران على الوصول إلى منفذ بحريّ مطلّ على حوض المتوسط.
خروج الجولان المحتلّ من الروزنامة الإسرائيلية.
الاتفاقيات والعقود الاستراتيجية الطويلة الأمد والموقّعة بلا تحديد تواريخ انتهاء مفعولها التي تحاول طهران فرضها على دمشق.
العقبات أمام مسار التّسويات
سيلتقي إردوغان والأسد عاجلاً أم آجلاً. لكنّ طريق التسويات والحلحلة سيستغرق وقتاً طويلاً. ما يقول ذلك هي الأعلام الأجنبية المنتشرة بكثافة فوق الجغرافيا السورية من كلّ صوب، والتي تمثّل نفوذ العديد من العواصم والأجهزة الاستخبارية وأصحاب المصالح الاقتصادية. وهي لن تفرّط بما وصلت إليه بالدم والمال والتوغّل الأيديولوجيّ إرضاءً للأتراك أو السوريين.
تراجع حماسة تركيا للانفتاح على سوريا أمام الطاولة الرباعية التي نظّمتها موسكو في أيار المنصرم، هدفه أن تأخذ ما تريده بضمانات روسية إيرانية. لكنّها منفتحة كما يبدو على وساطات روسية وعراقية وعربية بعد تغيّر خارطة العلاقات السياسية بين دمشق والعديد من العواصم العربية.
فهل الهدف هو الابتعاد عن الدور الإيراني الذي يقلقها في المنطقة الحدودية السورية العراقية ومشروع صناعة جغرافيا إيرانية بالتنسيق مع “قسد” والسليمانية وميليشيات الحشد الشعبي العراقي للتمدّد أكثر فأكثر في مثلّثات جيوستراتيجية تعني تركيا بشكل مباشر؟
أم ما يقلق تركيا يصل إلى سلوك الحليف الأميركي، من خلال توقيت زيارة قائد القيادة المركزية الأميركية، الجنرال مايكل إريك كوريلا، لعدد من قواعد التحالف الدولي في سوريا للوقوف على الوضع الأمني و“لتقويم الوضع العسكري في حملة هزيمة تنظيم الدولة “داعش”، ثمّ التقارير الأمنيّة التي تتحدّث عن إرسال المزيد من الأسلحة الأميركية الثقيلة وبينها رادارات متطوّرة إلى منطقة الحسكة؟
تقارب مُعادٍ بين إيران وأميركا
يجب ملاحظة ما أعلنه مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى إيثان غولدريتش من أنّ الولايات المتحدة لا تخطّط لسحب قوّاتها من سوريا، وأنّ “إحدى ركائز سياستنا في سوريا هي مواجهة داعش ومنع عودته، ولذلك نخطّط لمواصلة وإكمال مهمّتنا لمنع عودة ظهور التنظيم ومواجهته، والعمل مع شركائنا المحلّيين لتحقيق هذه الغاية”. هذا التصريح ربّما يسهّل لنا فهم دوافع التقارب التركي السوري.
هناك تصعيد إيراني – أميركي حيال ما تتحرّك من أجله روسيا على خطّ أنقرة – دمشق، خصوصاً في أعقاب ما ذكر عن زيارة محتملة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لتركيا. فهل تصل الأمور إلى مستوى التفاهمات الأميركية – الإيرانية كما حدث في العراق للردّ في سوريا أيضاً ومواجهة الحراك الإقليمي الجديد باتجاه التقريب بين تركيا وسوريا على حسابهما؟
ما يقلق واشنطن هو فقدانها الكثير من الأوراق السياسية التي تحرّكها في سوريا باستثناء شمّاعة داعش التي لم تعد قائمة، وانكشاف سياستها في مشروع الحكم الذاتي بشرق الفرات، وكذلك احتمال وصول الرئيس دونالد ترامب للرئاسة في أميركا بعد 4 أشهر الذي قد يقلب كلّ خطط ماكغورك – مسلم رأساً على عقب. فإمّا أن تستعدّ إدارة بايدن لأيام صعبة في سوريا أو تراجع سياستها وتعلن قرار دعم محاولة التقريب بين أنقرة ودمشق كي لا تجد نفسها في وضعية العزلة الإقليمية الإيرانية.