لنتفق أولاً أن مقاومة الاحتلال ليست حقاً فقط بل هي واجب .. ليس واجباً كفاحياً سياسياً بل هو واجب أخلاقي بالدرجة الأولى يجب أن يمارسه أي مواطن في أي شعب يتعرض للاحتلال، فالاحتلال هو نقيض للقيم الإنسانية وهو فعل عدواني دائم، والعمل ضده هو فعل دائم في معادلة انتهت في كل تجارب التاريخ بهزيمة الاحتلال.
الاحتلال فعل استعلائي عنصري يسيطر على شعب آخر ويحرمه من حقوقه الوطنية والإنسانية، ويستولي على ثرواته الطبيعية، يتحكم في حريته وحركته على الحواجز والمعابر ..يمنعه من الاستفادة من خيرات بلاده ...يعتقل ويقتل أبناءه وبالتالي ينتج لا إرادياً معادلته الطبيعية وهي مقاومته والنضال ضده وأي خلل في تلك المعادلة بالتعايش مع الاحتلال يمثل خللاً وطنياً وأخلاقياً معاكساً لطبيعة الأشياء .
كل محاولات التاريخ فشلت في تدجين الشعوب وفشلت في تمديد عمر الاحتلال مهما امتلك من قوة.
كانت النتيجة واحدة حيث قال فيها التاريخ حكمته بأن الاحتلال ينهزم ولا خيار آخر وأن الشعوب الحرة تنتصر.
تلك مقدمة لا بد منها لتأصيل الأشياء وتبيان أن الكفاح والنضال والمقاومة الفلسطينية للاحتلال لم تكن إلا ضرورة وطنية أخلاقية استدعتها اللحظة التاريخية لتصويب المعادلة، خاصة في ظل نقاش صاخب في الساحة الفلسطينية حول المقاومة وخصوصاً ما حدث في السابع من أكتوبر مفتتحاً حرب الإبادة التي فشل العالم في وقفها.
في النقاش ما يأخذ طابعاً حاداً يحمل قدراً من الديماغوجية غير القادرة على استخلاص العبر ولا الاستفادة من دروس التاريخ لشعب تبلغ تكلفة الرسوب في أي منها بحراً من الدم. فانتقاد عملية السابع من أكتوبر لا يعني انتقاد الكفاح ضد إسرائيل والوقوف في خانة معادية للمقاومة كما تحاول حركة حماس أن تقول في إطار الهيمنة على الفضاء العام، وفي هذا أخطر ما يمكن أن يقال في إطار منع النقاش في مسارات فلسطينية سواء صحيحة أو خاطئة.
ولأن المدرسة الأبيقورية في السياسة حاولت أن تفض الاشتباك في نقاشات السياسة الضدية حد العظم طالبة الحكم بعد النتائج وليس على الحدث نفسه فإن لدينا من النتائج ما يجعل من نقاش الأمر ضرورة وطنية.. فهل يساوي قتل ألف وخمسمائة إسرائيلي تدمير غزة ؟
هل يساوي هؤلاء قتل أربعين ألفاً وربعهم تحت الأنقاض وأكثر من ضعفهم جرحى ؟ وهل يساوي ذلك تهجير ونزوح مليوني إنسان ؟ من يضع الأمر في سياق الثمن اللازم للتحرير فإنه يحاول صناعة معادلة معلّبة تفشل في قراءة الواقع وحركته.
قبل حوالى ربع قرن قام تنظيم القاعدة الذي كان يقوده أسامة بن لادن بقتل ثلاثة آلاف أميركي في ضربة أبراج مركز التجارة الدولية بنيويورك على نمط الفزعة، ماذا كانت النتيجة؟ سيطرة أميركا على بلد لعقدين، وبعدها في ظل الانتقام الأميركي الذي استغلت مناخاته وتعاطف العالم فقدنا بلداً عربياً كالعراق وقتل بن لادن وانتهى تنظيمه وخرج من التاريخ. هل كانت تلك معادلة صحيحة ؟ لا بل كانت مغامرة غير محسوبة العواقب.
السابع من أكتوبر كان فعلاً رفع منسوب القتال أبعد مما يجب، في حالة الفلسطينيين دفع بالصدام نحو الضربة القاضية غير الناجحة وهذا ما جاء في خطاب الضيف أثناء الفعل، ودفع نحو مساحة خرجت عن معادلة الفعل المتراكم الذي سارته الشعوب الحرة وهي تستنزف المحتل بهدوء وعلى المدى الطويل وصولاً لاستسلامه، أي معادلة التراكم والنقاط التي حققتها الشعوب قبل أن تصل للحظة الحرجة لحظة وصول كُلفة الاحتلال أكبر من قدرته على الاستمرار، فالمحتل دائماً أقوى ويملك من الإمكانيات أضعاف أضعاف ما تملكه الشعوب، ولكن الذكاء كان بتحويل الإمكانيات البسيطة إلى قوة دائمة ومستمرة تضمن بقاء الشعب وإدامة الاشتباك، وقد أخل السابع من أكتوبر بضربته القاضية بالمسألتين وفي هذا ما يستدعي النقاش.
ورغم الخسارة التي أصابت إسرائيل ففي السياسة هناك توازن لأي حركة، إسرائيل أصيبت بضربة كبيرة ولكنها لم ترفع الراية البيضاء وتفكك منظومة احتلالها بل ردت بإبادة شعب وتدمير المكان وهنا ما يستدعي النقاش.
النقاش حول السابع من أكتوبر وجرعته الزائدة التي أدت لزيادة النار لتحترق الطبخة، وليس على مبدأ الكفاح ضد إسرائيل لأنه فعل لم يجر بحسابات الصراعات ومكانة إسرائيل بالنسبة للعالم وحساب ردة الفعل إذا ما ارتفع منسوب النار إلى هذا الحد وقدرة العالم على لجم إسرائيل وقدرة الشعوب والدول الصديقة على الفعل في الميزان الدولي. تلك كانت تحتاج إلى حسابات عبقرية لأن خطأ الحسابات في هذا الصراع شديد الفداحة.
لأن النقاش في الواقع الفلسطيني لم يعد موضوعياً بفضل نشوء مدرستين متصارعتين بات الأمر بحاجة لرأي ثالث في كل الأشياء. فخصوم حماس يريدون إسدال الستار على الحركة فكراً وسياسة وممارسة بعد نتائج السابع من أكتوبر ومؤيدو حماس يتهمون كل من يناقش في الأمر باعتباره ضد المقاومة وأقرب لإسرائيل وبين هذا وذاك غابت مدرسة العقل لنستمر أسرى ثنائية دون مراجعة.