مرتضى عمر رواس
شاب يمشي مسرعا نحو الجامعة يقول إنه وصل قبل ثلاث ساعات ليحجز مكانه في الصفوف الأمامية للصلاة، خلف قائد الثورة الإسلامية آية الله العظمى السيد علي الخامنئي. يقول لوكالة تسنيم: "إن اليوم يختلف عن كل أيام طهران وعن كل مراسم التشييع التي شهدتها البلاد، فالشهيد من فلسطين والتشييع في إيران... نحن نريد أن نشيع ضيفنا".
على بعد أمتار، تقف امرأة تحمل بيدها طبقًا من الحلوى في أقراص صغيرة توزعها بين الناس. قالت إنها قامت بتجهيزها بنفسها ليلاً، وأوضحت لوكالة تسنيم: "إنه على روح الشهيد... لقد قتلوه غدرًا".
بالقرب منها، يقف شاب يكتب بخط جميل على الأرض "الموت لإسرائيل" حتى تدوسها أقدام المُشيعين. بجانبه شخص آخر، يرفع لافتة كُتب عليها: "هنية رحل، لكن المقاومة ستبقى".
في الجهة المقابلة، يسير رجل مُسن بصعوبة مستندًا على عصاه، وتظهر خطواته القصيرة مدى معاناته. يقول إنه لم يعد قادرًا على المشاركة في المسيرات منذ سنتين بسبب ألم في قدمه. وعندما سألته لماذا جاء رغم صعوبة الحال؟، أجاب بعبارات تملؤها الحسرة: "كان ضيفًا في بيتنا. منذ أن سمعت بخبر استشهاده، قلت يجب أن أذهب بأي طريقة" وأضاف لوكالة تسنيم: "أنا حزين لأنه كان ضيفنا، لكنني سعيد لأنه رحل شهيدًا.. والشهداء لا يموتون".
الشوارع المؤدية إلى مكان الصلاة تم إغلاقها أمام المركبات بسبب الإجراءات الأمنية، مما صعّب على المسنين، وخاصة النساء، الوصول بسهولة ويُسْر إلى الجامعة. جلست بعض النساء على طول الشارع الرئيسي، لا يملكن القدرة على الحركة بيسر، لكنهن يقلن إنهن ملتزمات بالضيافة: "سنودعه بعيوننا وقلوبنا من بعيد".
داخل الحرم الجامعي، حيث امتلأ بحشود المُشيعين، تداخلت المواقف السياسية للمسؤولين الإيرانيين والفلسطينيين مع شعارات المشاركين المملوءة بالحماسة. تفاعلت الحشود مع أشعار المداح ميثم مطيعي في رثاء هنية عندما قال:
يا شهيد يا شهيد، قَسَمًا لن نحيد
سال دمك من الوريد إلى الوريد
أعاد فينا ذكرى كربلاء من جديد
وعلى عاتقنا الثأر لك، يا شهيد
سنرد الصاع صاعين ببأسنا الشديد
الصلاة على الشهيد
مع وصول قائد الثورة إلى جامعة طهران، وقف الجميع للصلاة على الشهيد، داعين بصوت واحد "اللهم إنا لا نعلم منه إلا خيرًا، فاجعله عندك في أعلى عليين". قبل شهرين ونصف كان هنية من بين المصلين على جثمان الرئيس الإيراني السيد إبراهيم رئيسي ورفاقه، وقبل أربعة سنوات ونصف شارك أيضًا في مراسم الصلاة على جثمان الشهيد قاسم سليماني، وقال حينها إنه جاء ليودع شهيد القدس. اليوم يتكرر نفس المشهد، فقط الزمن يتغير. عائلتا الشهيدين رئيسي وسليماني بين الحضور لتوديع الشهيد إسماعيل هنية. يقول أحد المشاركين لوكالة تسنيم: "هكذا هو محور المقاومة، شهيد يودع شهيد، وكلما وقع شهيد، يحل مكانه آخر، لأن دم الشهيد عطر لا يحده مكان".
عطر "هنية" في كل مكان
بعد الصلاة، رُفع نعش الشهيد هنية ورفيقه على الأيادي والأكتاف، قبل أن يوضع لاحقًا على مركبة خاصة بالتشييع. جموع المشيعين امتدت في شارع الثورة لعدة كيلومترات، حيث بلغ التأثر ذروته مع الأشعار التي رددها المداحون والمشيعون في رثاء الشهداء. الأعلام الفلسطينية وأعلام حركات المقاومة كانت ترفرف بكثرة في أيدي الناس، بالإضافة إلى صور الشهيد هنية مع عبارات تبارك شهادته: "هنيئًا يا هنية".
آلاف الورود بجانب الجثامين، كانت تُلقى تباعًا على الجموع المشاركة تبركًا بروح الشهيد. تقول ابنة شهيد وهي تمشي خلف النعش: "الشهيد كزجاجة عطر عندما تنكسر ينتشر عطرها في كل مكان. الآن عطر هنية قد ملأ طهران. وكلمات الإمام الخميني مازالت حية إن دم الشهيد إذا سقط بيد الله فهو ينمو". إسماعيل هنية كان يعتبر شهادة أبنائه وأحفاده مصدر فخر، والآن الناس يرون في شهادته مصدر عزة للمسلمين وذلة للنظام الصهيوني".
إلى جانبها، كان يقف رجل مُسن ربط علم إيران حول رأسه، وعلق عَلَم فلسطين على كتفه، ولف حول عنقه شالًا يحمل صورة الحاج قاسم. جاء من مدينة شهريار خارج العاصمة، وكان يستعد للسفر إلى كربلاء للمشاركة في أربعينية الإمام الحسين "عليه السلام". يقول لوكالة تسنيم إنه أرجأ سفره ليشارك في التشييع. ويضيف بثقة: "إذا فتحت لنا الدولة طريقًا إلى فلسطين، سأكون أول من يسجل اسمه للقتال هناك وسأقوم بكل ما أستطيع فعله".
بنفس الشعور والمضمون، تقول شابة إنها تلقت تدريبًا في مؤسسة الهلال الأحمر الإيراني لتكون ضمن طاقم طبي يمكن إرساله إلى غزة عندما تسمح الظروف بذلك. وتضيف لوكالة تسنيم: "أهل غزة على وشك تحقيق النصر والفتح الكبير، لأنهم في طريقهم إلى القمة، وكلما اقتربوا منها أصبح الطريق أكثر صعوبة".
غير بعيد، لفت انتباهي أمّ تحمل بيدها اليسرى طفلها، بينما كانت درجة الحرارة قد بلغت 38 درجة، وفي يدها اليمنى تضع مبلغًا من المال في صندوق كتب عليه "دعماً لشعب غزة". كعادتهم، يصطحب الإيرانيون أطفالهم في كل النشاطات الاجتماعية والدينية والسياسية، لذا لم يكن حضورهم بكثافة في مراسم تشييع هنية، رغم حرارة الطقس، أمراً مستغرباً. لكن هذه المرأة كان طفلها لا يتجاوز عمره ثلاثة أشهر. عندما سألتها: ألم يكن من الأفضل البقاء في المنزل لحماية رضيعك؟ أجابت قائلةً: "مهما كان الأمر صعبًا، فهو لا يُقارن بما يعانيه أطفال غزة في خيام ممزقة وعلى الرمال الساخنة تحت أشعة الشمس أو أمطار الشتاء والقصف والجوع يلاحقهم. عندما أضع نفسي مكان أمهات غزة، أجد أنني لا شيء".
المطالبة بالدم
"قتلتم ضيفنا فانتظروا ردنا"، كان هذا الشعار مرفوعًا على طول مسير التشييع مطالبًا بالثأر. وهو يعكس كلمات قائد الثورة الإسلامية التي توعد فيها الكيان الصهيوني بعقاب قاسٍ، حيث قال في تقديمه واجب العزاء لعائلة هنية: "من واجبنا الانتقام لدم الشهيد". أعلنت إيران الحداد لثلاثة أيام، وتم رفع العلم الأحمر على قبة مسجد جمكران في مدينة قم المقدسة، ولن يُنزل إلا بعد الأخذ بالثأر. هكذا يرد أحد المشاركين في التشييع، وعلى جبينه عبارة "يا منتقم".
وعندما سألت صديقه إلى جانبه، ألا تدخل عملية الانتقام، إيران في مخاطر حرب يمكن أن تتوسع؟ ألا يمكنكم المطالبة بالثأر مع تأخير تنفيذه؟ جاء رده قاطعًا: "إذا لم نرد، فسوف يستمرون في القتل". وأوضح شخص ثالث، قائلًا: "المطالبة بدم القتيل هي سياسة ردعية وطريقة للحفاظ على التوازن، حيث يُظهر الرد القوي على الجريمة أن إيران جادة في معاقبة المجرم، لذا يجب أن نرد في أفضل وقت وبأفضل طريقة حتى يسجله الصهاينة في تاريخهم".
على امتداد مراسم التشييع، التي استمرت ساعتين ونصف، وكان من المقرر أن تستمر لولا إعلان المنظمين بضرورة نقل جثامين الشهداء إلى قطر حيث سيتم موارتهم في الثرى، لم تتوقف هتافات المشيعين. كانت شعارات "الموت لإسرائيل" و"الموت لأمريكا" و"الموت لبريطانيا" تتردد بقوة من حناجرهم، بينما ارتفع عاليا شعار "صاروخ يردّ على صاروخ"، ومطالبات بتنفيذ عمليات الوعد الصادق الثانية.
كان يوم التشييع في طهران يوماً استثنائياً لا يشبه باقي الأيام. أول تشييع لغير إيراني في ايران، ترددت الشعارات بلغة واحدة، مطالبة بالانتقام للشهداء والحرية لفلسطين، مما يبرز أن القضية الفلسطينية هي قضية دينية لا مذهبية وإنسانية لا مصلحية بالنسبة للإيرانيين. تتجاوز هذه القضية الحدود والجغرافيا والمصالح والمذاهب، حيث يختلط الدم الإيراني بالدم الفلسطيني في طوفان الأقصى، وفي معارك أخرى ضمن فعل اجتماعي وسياسي وثوري إيراني داعم للشعب الفلسطيني ومقاومته بلا كلل أو ملل.
/انتهى/