والحاج ليس حالة معزولة، بل هو واحد من شريحة واسعة من التونسيين الذين باتت انقطاعات المياه الصالحة للشراب تؤرقهم وتتصدر قائمة اهتماماتهم، في البلد الذي دخل
مرحلة الشح المائي منذ فترة وانخفض فيه نصيب الفرد من المياه إلى 420 متر مكعب، وهي نسبة أدنى من عتبة "الشح المائي" المحددة بـ 500 متر مكعب في السنة لكل ساكن.
وتشهد أغلب مناطق تونس منذ أسابيع انقطاعات متواترة في الماء الصالح للشراب، تمتد من بضع ساعات إلى عدة أيام وتصل حتّى إلى ثلاثة أشهر في عدد من المناطق.
وتكشف خارطة العطش التي ينشرها المرصد التونسي للمياه بشكل شهري عن رصد 598 تبليغا عن انقطاع المياه خلال شهر يوليو/ جويلية الماضي، و26 تحركا احتجاجيا بسبب العطش في مختلف مناطق الجمهورية.
فما هي الخطة التي تعتمدها الحكومة التونسية لمجابهة هذه الأزمة؟ وما مدى نجاعتها؟
باشرت الحكومة التونسية منذ العام الماضي في اعتماد خارطة طريق لمجابهة أزمة المياه الآخذة في التصاعد سنة بعد أخرى، تضمّنت إجراءات عاجلة وأخرى طويلة الأمد، لعل أبرزها بناء سدود جديدة واعتماد نظام تقسيط المياه الصالحة للشرب الذي انطلق العمل به منذ شهر آذار/ مارس 2023، بالإضافة إلى المباشرة في تنقيح التشريعات الخاصة بالمياه.
وفي هذا الصدد، قال عضو الاتحاد التونسي للفلاحة حمادي البوبكري، في تصريح لـ "
سبوتنيك"، إن أزمة المياه التي أنتجتها التغيرات المناخية باتت واقعا ملموسا في تونس، وتأثيراتها تنسحب على جميع القطاعات ومن أبرزها قطاع الفلاحة.
وأضاف: "بسبب قلّة التساقطات المطرية، تراجع مخزون السدود في تونس إلى 664 مليون متر مكعب خلال شهر يوليو/ جويلية الماضي، مقابل 1212 مليون متر مكعب خلال الفترة المناظرة من سنة 2013، بمعدل تراجع يقدر بـ 50%".
وعلى الرغم من هذا الوضع، يؤكد البوبكري أن السلطات التونسية تسعى جاهدة إلى مجابهة هذه الأزمة واحتوائها، مشيرا إلى أن هذه المسألة تحظى باهتمام بالغ على مستوى أعلى هرم السلطة ووزارة الفلاحة واتحاد الفلاحين.
ولفت إلى أن الحكومة التونسية نجحت بالفعل في تحقيق تقدم على مستوى تنفيذ بنود خارطة الطريق المائية، حيث باشرت في إنجاز 4 سدود في مناطق مختلفة من الجمهورية، بعضها أوشك على الانتهاء على غرار سد "ملاق العلوي" في محافظة الكاف (الشمال الغربي)، وسد "الدويميس" بمحافظة بنزرت (الشمال الشرقي).
وقال البوبكري: "بفضل هذه السدود ستتمكن تونس من الحفاظ على ديمومة الموارد المائية وتخفيف العبء على المائدة المائية التقليدية التي تؤمن حاليا النشاط الزراعي والأمن الغذائي للتونسيين".
ولفت المسؤول بالمنظمة الفلاحية إلى أن الحكومة شرعت أيضا في بعث مشاريع جديدة لتحلية مياه البحر، منها محطة "الزارات" بمحافظة قابس جنوب شرقي البلاد التي دخلت مرحلة الإنتاج مطلع الشهر الماضي بطاقة إنتاجية تقدّر بـ 50 ألف متر مكعب يوميا، ومحطة صفاقس في الوسط الشرقي بطاقة إنتاجية تقدر بـ 100 متر مكعب يوميا، بالإضافة إلى محطة سوسة التي من المنتظر أن تدخل مرحلة الاستغلال بداية العام المقبل.
وأكد البوبكري أن هذه المشاريع سترافقها أيضا إجراءات أخرى على المستوى الزراعي، مضيفا: "لقد وضع بالفعل برنامج على مستوى وزارة الفلاحة يهدف إلى اعتماد سياسة التقشف الزراعي، وذلك من خلال التقليص من الزراعات السقوية التي تستهلك كميات كبيرة من المياه، مقابل دعم الزراعات الأساسية على غرار الحبوب والأعلاف باعتبارها رافدا أساسيا للتنمية في القطاع الفلاحي والمسؤولة عن الأمن الغذائي للتونسيين".
على الطرف المقابل، يرى الخبير في الموارد المائية حسين الرحيلي أن الحلول التي تعتمدها الحكومة التونسية حاليا هي حلول "وقتية واستعجالية وليس لها بعد استراتيجي داخل الزمن".
وأوضح في تصريح لـ "سبوتنيك": "المقاربة الرسمية التي تعتمدها الدولة ووزارة الفلاحة ليست سوى تواصلا لنفس السياسات التقليدية المعتمدة منذ ستينات وثمانينيات القرن الماضي".
وتساءل الرحيلي عن الجدوى من بناء سدود جديدة في الوقت الذي نضب فيه عدد من السدود القديمة من المياه بفعل الحرارة وقلة التساقطات المطرية.
وتابع: "لقد تحوّلت السدود التقليدية إلى فضاءات لتبخّر كميات هائلة من المياه أمام ارتفاع درجات الحرارة وعلى مدار شهور طويلة، فتونس تخسر يوميا ما بين 600 و700 ألف متر مكعب من المياه بفعل التبخر، وبالتالي هذه السدود بشكلها الكلاسيكي لم تعد حلا".
ويرى الرحيلي أن تقنية تحلية مياه البحر التي التجأت إليها تونس قد تكون حلا، ولكنّ ضريبتها المالية والطاقية والبيئية باهظة جدا.
وأضاف: "ليست تونس الدولة الوحيدة التي اعتمدت هذه التقنية، ولكن الدول التي لجأت إلى تحلية مياه البحر استنفدت جميع الإمكانات الأخرى المتاحة لديها، في الوقت الذي هرولت فيه تونس إلى اعتماد هذا الإجراء متناسية كلفته الطاقية الكبيرة والتأثيرات السلبية لهذه التقنية على المحيط البحري عموما".
وتساءل الخبير في الموارد المائية: "هل تمتلك تونس التجهيزات والإمكانات المالية واللوجستية والعلمية لمراقبة تأثير المياه المالحة الناجمة عن محطات تحلية مياه البحر على المحيط البحري بشكل عام وعلى الثروات المائية؟".
وفي علاقة بنظام تقسيط المياه، قال الرحيلي إن حل أزمة المياه في تونس لا يمكن أن يمر عن طريق قطع المياه عن عدد من الولايات بشكل دوري، مشيرا إلى أن هذا الإجراء قد يحل الإشكال لأشهر قليلة ولكنه يرّحل الأزمة لفترات قادمة ويؤدي إلى تعميقها وتراكمها في حال تواصل انحباس الأمطار.
ويرى الرحيلي أن الوضع المائي في تونس يستوجب فتح حوار وطني شامل تشارك فيه كل الأطراف المتدخلة في قضايا الماء من أجل بلورة حلول مبتكرة قادرة حماية المياه التبخر والتلوث والتحكم فيها بشكل ناجع.
سياسة تقسيط المياه ترهق التونسيين
ومنذ أكثر من سنة، تعتمد الحكومة التونسية نظام قطع المياه لتجاوز فترة الطلب المتزايد عليها خلال الصائفة، رغم أن وزارة الفلاحة ذكرت حينها أنه إجراء ظرفي سيمتد إلى غاية 30 أيلول/ سبتمبر 2023.
وتؤكد المنسقة بقسم العدالة البيئية والمناخية بالمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية إيناس الأبيض، لـ "سبوتنيك"، أن أزمة المياه التي تعود جذورها إلى خمس سنوات كانت لها انعكاسات وخيمة على حياة المواطنين وعلى حقهم في الماء سواء مياه الشرب أو الري.
وذكرت الأبيض أن المطالب المتعلقة بالمياه تصدّرت هذا العام قائمة التحركات الاحتجاجية، حيث رصد المنتدى 172 تحركا ذو بعد بيئي خلال الثلاثي الأول من السنة الجارية، من ضمنها 111 تحركا من أجل الماء، منها 83 تحركا سببها الانقطاعات المتكررة للمياه الصالحة للشرب التي تحوّلت إلى ظاهرة يعيش على وقعها التونسيون خلال كل صائفة، بحسب الأبيض.
وأشارت الأبيض إلى أن كل الإصلاحات التي طالب بها الخبراء والمجتمع المدني وعلى رأسها تنقيح مجلة المياه، ومراجعة الخارطة الفلاحية، والتوقف عن اسناد تراخيص تعليب المياه للشركات التي تستنزف الطبقات المائية في المناطق المعطشة، والتوقف عن الزراعات التي ليست لها قيمة مضافة، وضمان اكتفاء السوق المحلية قبل التفكير في التصدير.. بقيت حبرا على ورق.