فراس رضوان أوغلو - تلفزيون سوريا
تحولت الأرض السورية إلى ساحة صراع استراتيجي بين الدول المتداخلة فيها، حيث انتهت مرحلة الصدام العسكري المباشر وحلت محلها مرحلة صراع النفوذ وتوطيده. ولعل ما يجري في الشمال الشرقي السوري يجسد هذا الصراع بين إيران والولايات المتحدة، حيث زودت الأخيرة قوات "قسد" بمنظومة دفاعات جوية (أفنجر) لتحصين جنودها ووكلائها ضد إيران ووكلائها في المنطقة.
هذه الأحداث جعلت تركيا، اللاعب المهم في الشمال السوري، تستشعر الخطر المتزايد أصلاً على حدودها الجنوبية. فرغم نجاح تركيا في الشمال العراقي وإقناع بغداد بتصنيف حزب العمال الكردستاني كمنظمة غير قانونية ممنوع التعامل معها ويجب نزع سلاحها، لم تستطع تكرار نفس هذا النجاح حتى الآن في سوريا. بل إنها تصطدم بالرفض الأميركي بشكل عام للسياسة التركية في سوريا، وفرض اللاءات الثلاث على أنقرة في الملف السوري.
أول هذه اللاءات هي "قسد" التي تزداد أهميتها بالنسبة للولايات المتحدة الأميركية، فهي ذراعها العسكرية الوحيدة في المنطقة لمواجهة إيران وميليشياتها التابعة لها، وبالتالي النظام السوري وروسيا أيضًا. وزاد هذا الاهتمام بعد الحرب الإسرائيلية في غزة وما تبعها من صدام إسرائيلي مع حزب الله وإيران، والتخوف من أن تصبح القوات الأميركية ومن معها في الشمال الشرقي السوري هدفًا سهلاً للميليشيات التابعة لإيران في العراق وسوريا. لكن الدعم العسكري الأميركي لـ"قسد" يقلق طرفًا ثالثًا وهو تركيا، التي لا تكتفي بالمراقبة وحسب، بل تتخذ خطوات فعلية ضد هذا الدعم سواء على الصعيد الميداني عبر القصف الجوي لنقاط عسكرية لـ"قسد"، أو الملاحقة عبر طائرات البيرقدار لقيادات عسكرية.
وهذا الأمر جعل الصدام الأميركي التركي واضحًا في هذا الملف، بل إن وتيرة التسليح الأميركي لـ"قسد" زادت في الآونة الأخيرة، حيث راحت تهبط طائرات شحن أميركية عسكرية في قاعدة خراب الجير بريف رميلان شمال الحسكة، تحمل على متنها معدات عسكرية ولوجستية مما يعدُّ استكمالاً لتعزيز قواعدها العسكرية من الناحية الدفاعية والهجومية في حال تعرضها لهجوم من الميليشيات العراقية المدعومة من إيران. وعليه، فإن أي هجوم تركي على قواتها سيهدم كل ما تقوم به واشنطن من احتياطات عسكرية ولوجستية.
أما اللاء الثانية فهي "لا" لتقارب تركيا مع نظام دمشق لما فيه من ميول واضحة تُجاه روسيا ومصالحها في سوريا على حساب المصالح الأميركية، التي تتناقض أساسًا مع المصالح التركية، خاصة بعد الحرب الإسرائيلية في غزة وزيادة التوتر بين تركيا وإسرائيل. علاوة على ذلك، لو تم نقل التقارب التركي الروسي في سوريا باتجاه المصالح الأخرى لكلا البلدين سواء في شرق المتوسط أو ليبيا وحتى أفريقيا الساحل الغربي، فهذا يُعد انحرافًا خطيرًا بالبوصلة التركية من وجهة نظر واشنطن التي تزود "قسد" بأسلحة متطورة، مما جعل تركيا تردّ على هذا الدعم غير المبرر (وفق ما تراه أنقرة) بالتقارب مع النظام السوري.
ومن جهة أخرى، فإن التقارب مع النظام يعني التقارب مع إيران، فالعدو المشترك الآن هو الوجود الأميركي في سوريا لما يسببه من أضرار أمنية في المقام الأول ثم استراتيجية لكل من تركيا وإيران وروسيا. ولا يمكن إنكار الدور الإسرائيلي في هذه المعادلة، لأن أنقرة ترى أن الدور السلبي الذي تقوم به تل أبيب يجرّ المنطقة نحو أمرين أحلاهما مرّ، إما حرب إقليمية وهذا ما لا يريده أحد، أو تعطيل التنمية الاقتصادية، خاصة أن كل بلدان المنطقة تمرّ بأزمة اقتصادية. بالإضافة إلى ذلك، فإن التقارب التركي مع النظام السوري سيعد نوعًا من أنواع الالتفاف على قانون قيصر الذي فرضته الولايات المتحدة الأميركية ضد النظام في دمشق، إذ لا يمكن أن يكون هناك تطبيع أو عودة للعلاقات بين الطرفين من دون عودة العلاقات الاقتصادية بينهما، وهذا قد ينسف قانون قيصر الأميركي.
أما اللاء الثالثة فهي "لا" لأي عملية عسكرية تركية في الداخل السوري، سواء ضد داعش أو "قسد" أو غيرها، لأن واشنطن تعتبر أن أي عملية عسكرية هي إخلال بالتوازن القائم حاليًا من الناحية العسكرية أو من الناحية اللوجستية. ويدرك جلّ صنّاع القرار في البيت الأبيض أن أي عملية عسكرية تركية في الأراضي السورية هدفها الأساسي هو "قسد" مهما كانت المبررات أو الأسباب. وهذا بكل تأكيد لا يناسب واشنطن في الوقت الحالي، فالتوتر في المنطقة لا يبدو له نهاية حتى الآن رغم كل الجهود غير الكافية التي تقوم بها كل الأطراف. ورغم نأي النظام السوري بنفسه عن الحرب القائمة جنوبًا، فإنه لا يستطيع أن يُجِنِّبَ الأرض السورية تلكَ الحسابات اللوجستية للبلاد المتداخلة فيها عسكريًا.