د. علي الصلابي - خاص ترك برس
ما كاد القتال ينتهي في حطِّين ، وتتحقَّق خسارة الصَّليبيين؛ حتى اسرعت الرُّسل إلى غرب أوروبا لإعلام ملوك أوروبا، وأمرائها بما الت إليه أوضاع الصَّليبيين في الشرق ، ولم يلبث أن اقتفى اثرهم رسلٌ اخرون عقب فتح بيت المقدس. والواقع: أنَّ تلك الخسارة ، وهذا الفتح أحدث ردَّ فعل عنيفٍ في المجتمع الغربي؛ الذي ذُعر لنبأ الكارثتين ، واعتقد النَّصارى في الغرب بأنهما جاءتا نتيجة إهمالهم في عدم الاستجابة للاستغاثات المتكرِّرة؛ التي جاءت من مملكة بيت المقدس في السَّنوات الأخيرة ، وأدرك من اجتمع في مدينة صور من الصَّليبيين: أنَّه ما لم تصلهم نجدة من الغرب ، فإن فرص الاحتفاظ بصور ستتضاءل بعد أن ضاع كلُّ أملٍ في استعادة المناطق التي فقدوها.
ولم يلبث كونراد دي مونتفيرات أن ارسل جوسياس رئيس أساقفة صور ، إلى غرب أوروبا في منتصف عام 583 هـ واخر صيف عام 1187 م ، ليطلب من البابا ، وملوك أوروبا ، وأمرائها النَّجدة العاجلة. وصل جوسياس إلى صقلية، واجتمع بملكها وليم الثاني الذي استجاب لهذه الدَّعوة بعدما راعه ما سمعه من جوسياس من أنباء الكارثة التي حلَّتْ بالصليبيين في الشرق ، ولما كان في حالة حرب مع بيزنطية؛ فقد عقد صلحاً مع الأمبراطور البيزنطي ، إسحاق أنجيلوس في شهر محرم 584 هـ/شهر اذار عام 1188 م ليتفرغ للقضية الصليبية ، ثم أرسل أسطولاً يحمل بضع مئات من الفرسان ، إلى طرابلس بقيادة أمير البحر الصِّقللِّي «مرجريت البرنديزي» وقد نجح في منع صلاح الدين من فتح طرابلس(تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة، محمد طقوش، ص 176).
ثم انتقل جوسياس من صقلية إلى روما ، ترافقه بعثة صقلية ليشرح للبابا أوربان الثالث حقيقة وضع الصليبيين في بلاد الشام ، فلم يتحمَّل الباب الصَّدمة ، وتوفي كمداً في 14 شعبان 583هـ تشرين الأول 1187م على أنَّ خليفته جريجوري الثامن بادر على الفور بالاتصال بملكي انكلترا ، وفرنسا ، وأمبراطور ألمانيا يستحثُّهم على أن يتناسوا ما بينهم من خلافات ، ويُعبِّئوا قواهم لمحاربة المسلمين ، وإذا كان البابا جريجوري الثامن قد توفي هو الاخر في 13 شوال/17 كانون الأول قبل أن يرى ثمرة جهوده ، فإن خليفته كليمنت الثالث (583 ـ 587 هـ/1187 ـ 1191 م أسرع بالاتصال بالأمبراطور الألماني فريد ريك الأول بربروسا ، وأقنعه بالاشتراك في حملة صليبية تتَّجه إلى الشرق ، وحدث هذا في الوقت الذي انتقل فيه جوسياس إلى الغرب لمقابلة ملكي فرنسا ، وإنكلترا فيليب أغسطس ، وهنري الثاني ، واجتمع بهما في جيزورز على الحدود بين نور منديا ، وفرنسا ، وأقنعهما بتناسي خلافاتهما التي كانت حادةً ، وشجَّعهما على عقد الصُّلح ، والاشتراك معاً في حملة صليبية ، ومع ذلك ، فإنهما تباطأا في التَّنفيذ ، وتجدَّدت الحرب بينهما ، ثم توفي هنري الثاني ملك إنكلترا في عام 585 هـ/1189 م وخلفه ابنه ريتشارد قلب الأسد دوق بواتو ، فعقد صلحاً مع الملك الفرنسي ، وتجهَّز للقيام معه بحملةٍ مشتركة إلى الشرق(صلاح الدين، علي الصلابي، ص473).
ويتَّضح دور رجال الدِّين المسيحي في الأزمات من خلال ما قام به جوسياس ، والبابا ، وهنا نستخلص درساً مهماً وهو: على العلماء ، والفقهاء ، والدُّعاة ، والمفكِّرين ، والأدباء ، والسَّاسة من أمتنا تجاوز مرحلة الشعور بالحسرة ، والحوقلة في الملمَّات ، والنَّكبات التي تمرُّ بها الأمة ، والسعي الدؤوب للعمل الصَّحيح؛ الذي يحبُّه الله ، ورسوله من توظيف المهارات القيادية، والقدرة على الإقناع ، وحسن التَّخطيط ، وتقديم رؤية حضارية نهضوية... إلخ من أجل إعزاز دين الله تعالى ، والتصدِّي للغزاة.
قدم الصليبيون إلى بلاد الشام بإعدادٍ كبيرة لا تُحصى ، يدلُّنا على ذلك الرِّسالة التي بعث بها صلاح الدين إلى الخليفة العباسي في بغداد في سنة 586 هـ/1190 م يخبره بذلك ، والتي قال فيها: وقد بُلي الإسلام منهم بقومٍ قد استطابوا الموت ، واستجابوا للصَّوت ، وفارقوا المحبين ، والأوطان ، وهجروا المألوفين ، والأهل والدِّيار ، وركبوا اللُّجج ، ووهبوا المهج ، كلُّ ذلك طاعةً لقسِّيسهم ، وامتثالاً لأمر مركيسهم وخرج المسيحيُّون على اختلاف فئاتهم، وأجناسهم، ومن عجز عن الخروج بنفسه جهز بعدَّته ، وثروته مَنْ يقدر على السَّفر
وخرجت النساء للإسهام في الحملة الصليبية الثالثة ، فمنهنَّ من خرجن وبصحبتهن الفرسان، وقد تكفَّلن بجميع ما يحتاجون إليه من مؤنٍ ، وعتاد. وعلى سبيل المثال ذكر أبو شامة، وغيره: أنه في سنة 585 هـ/1189 م وصل في البحر إلى بلاد الشام امرأةٌ مسيحية جليلة القدر ، وفي صحبتها خمسمئة فارس بخيولهم ، وأتباعهم ، وقد تكفَّلت بكلِّ ما يحتاجون إليه ، فهم يركبون لركوبها ، ويحملون لحملاتها ، ويثبون لوثباتها. ومنهنَّ من خرج وقد لبسن الدُّروع ، وكن في زي الرِّجال للاشتراك في المعارك بأنفسهنَّ لاعتقادهن: أنَّ عملهن ذلك عبادة، ومنهنَّ من خرج لإسعاف الغرباء ، وإسعاد الصَّليبيين بستبيل أنفسهن لهم للاستمتاع بهنَّ حتى لا يتسرب الملل إلى نفوس المحاربين (صلاح الدين والصليبيون، عبدالله الغامدي، ص238).
وأما وليم الثاني ملك صقلية فقد بادر بإرسال أسطول في سنة 585 هـ/189 م يشتمل على ستين قطعةٍ ، بها عشرة الاف مقاتل ، وأسند قيادته إلى رجلٍ من رجال البحر يدعى: «المرغريط» فأبحر ذلك الأسطول إلى مدينة صور ثمَّ رجع إلى طرابلس ، ولم ينفع الصليبيين بشيءٍ؛ لأنه ما به من الميرة لم تكن تكفي ما عليه من الرجال (مفرج الكروب، جمال بن واصل م2، ص558).
المراجع:
1. تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام والجزيرة، محمد سهيل طقوش، دار النفائس، الطبعة الأولى، لبنان 1400 هـ 1999 م.
2. صلاح الدين والصليبيون استرداد بيت المقدس، عبد الله سعيد محمد الغامدي، دار الفضيلة بيروت، لبنان 1405 هـ 1985م.
3. صلاح الدين، على الصلابي، دار ابن كثير، بيروت، ط1، 2009م.
4. مفرج الكروب في أخبار بني أيوب، جمال الدين محمد بن سالم بن واصل.