استيلاء على مؤسسة ثقافية في السليمانية يعمّق الصراع داخل كردستان
لليوم الثالث على التوالي تتصاعد حدة التوترات السياسية في السليمانية، ثاني أكبر مدن إقليم كردستان العراق، وذلك بعد سيطرة قوة أمنية على مبنى مؤسسة "جاودير"، الثقافية السياسية، التي يرأسها القيادي السابق في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني حكمت محمد كريم، المعروف باسم "ملا بختيار".
وأعلنت مؤسسة "جاودير" تعرّض مقرّها في محافظة السليمانية، الخميس الماضي، لمداهمة نفذتها قوة مرتبطة بزعيم حزب الاتحاد الكردستاني بافل الطالباني. وبحسب بيان المؤسسة، فإن "القوة المهاجمة تمكنت من السيطرة على كامل محتويات المقر بعد إجبار حراس المؤسسة على الانسحاب". وأعربت عن إدانتها الشديدة لهذا الهجوم، معتبرةً أنه يشكل تهديداً خطيراً لحرية التعبير، وحرية الكتابة، وحرية الفكر. ووصفت المؤسسة العملية بأنها خطوة مقلقة تهدد الحريات الأساسية في المجتمع.
وفي تصريح أدلى به رئيس المؤسسة، ملا بختيار، قال إن هذا الإجراء "يشكل خطراً كبيراً"، محذراً من أن ذلك يؤدي إلى "سيناريو مخيف". ثم قال في تصريحات لاحقة له، إن "ما يفعله بافل وقوباد طالباني (شقيق بافل) بحقنا يهزّ عظام مام جلال (جلال الطالباني) في قبره. لقد استولوا على كل الأراضي. لقد احتلوا جميع المناطق التجارية ولا أحد يعرف أين تذهب كل هذه الإيرادات. أين تذهب مئات الملايين من الدولارات من عائدات السليمانية؟".
وأضاف أن "جميع استطلاعات الرأي تؤكد تراجع شعبية الاتحاد الوطني الكردستاني، وأن أصوات الاتحاد الوطني ستكون أقل بكثير من أصوات الديمقراطي الكردستاني، وحتى أقل من العديد من القوائم الأخرى"، مستكملاً: "إذا ارتكب الاتحاد الوطني الكردستاني أي انتهاك بحقنا، فسنرد بموقف مشرف وسلمي. وسنقدم برنامجنا البديل. نحن الاتحاد الوطني الكردستاني الحقيقي لأننا لسنا فاسدين، وليس لدينا شركات ولم نحتل أراضي".
ويبدو الخلاف السياسي واضحاً في المشكلة ما بين ملا بختيار وبافل طالباني، ولا سيما بعد المؤتمر الخامس لحزب الاتحاد الوطني الكردستاني الذي عقد في سبتمبر/ أيلول الماضي، الذي انتخب فيه بافل طالباني رئيساً للحزب في ظروف وصفت بالمعقدة وتحت التهديد، ولا سيما بعد أن أقدم بافل طالباني على إبعاد أغلبية الرعيل الأول في الحزب، ومنهم لاهور شيخ جنكي وملا بختيار وآلا طالباني، وقادة آخرون.
وبحسب مصادر سياسية من مدينة السليمانية، فإن "الخلاف بين ملا بختيار وبافل طالباني ليس جديداً، بل إنه يمتد لأكثر من 4 أعوام، وجزء منه يُعَدّ خلافاً عائلياً، ولا سيما أن ملا بختيار هو والد طليقة بافل طالباني، وجد أولاده"، موضحة لـ"العربي الجديد"، أن "حزب الاتحاد الوطني، بعد إبعاد المقربين من القرار فيه، أغلبيتهم من قدامى أعضاء الحزب، تحوّل بالكامل بيد بافل طالباني، وعقب الفوز في محافظة كركوك، يسعى طالباني لإسكات الأصوات المعارضة له".
يأتي ذلك مع العلم أن مؤسسة "جاودير" كانت قد أقامت سلسلة من الندوات والجلسات الحوارية التي أفضت في النهاية إلى انتقاد الوضع السياسي في مدينة السليمانية، ووجهت نقداً لاذعاً للأخوين بافل وقوباد، معتبرة أنهما يمارسان سياسات الإقصاء بحق خصومهما السياسيين، فيما لم يردّ الاتحاد الوطني الكردستاني طوال الفترة الماضية، ويبدو إغلاق مقر المؤسسة أعمق رد لإنهاء الحديث السياسي في المدينة، عدا ما يريده الكردستاني.
وألمح ملا بختيار إلى سعيه نحو تشكيل تكتل أو جبهة سياسية، حيث قال: "إذا ارتكبوا جريمة غداً، فلن أبقى صامتاً، ولست وحدي، نحن مئات، وهؤلاء المئات لن يكونوا بمفردهم، وبالطبع نحاول تشكيل جبهة واسعة حتى لا يصبح الوضع أكثر خطورة ويتوقف انتهاك الحريات".
لكن المكتب السياسي للاتحاد الوطني الكردستاني نفى استحواذ قوة عسكرية تابعه له على مبنى مؤسسة جاودير التي يديرها ملا بختيار. وذكر في بيان أن "مؤسسة جاودير الثقافية ظلت تمارس أعمالها حتى الآن بدعم مالي من الاتحاد الوطني، ولكن ملا بختيار الذي يبدو أنه لم يَعد يريد الاستمرار بالعمل تحت مظلة الاتحاد الوطني الكردستاني، لم يسلّم تلك المؤسسة للاتحاد".
وأضاف البيان: "لذا، فالاتحاد الوطني الكردستاني يرى أن من حقه الكامل أن يسترجع المؤسسة التي بنيت بأمواله، خصوصاً أن الأرض التي بُنيت عليها مؤسسة جاودير تعود ملكيتها للاتحاد أيضاً"، موضحاً أن "ما حدث لا يفسر بأي شكل من الأشكال على أنه تحجيم لحرية التعبير، بل على العكس تماماً، فهو يندرج ضمن إعادة تنظيم مؤسسات الحزب وتعزيز أدائها خدمة لكردستان وشعبها".
وتواصل "العربي الجديد" مع عضو في مؤسسة جاودير، قال إن "الاستيلاء على مقر المؤسسة بطريقة أمنية فعل مرفوض، ولو كان هناك أي إشكال على مبنى المؤسسة، لكان من المفترض اللجوء إلى الطرق القانونية، خصوصاً أن إغلاق أي مؤسسة إعلامية أو ثقافية لا يحصل إلا بأمر قضائي بحسب قانون 35 لسنة 2007، الذي نص على أن تكون المحكمة هي الجهة المختصة بإغلاق أي مؤسسة".
وأضاف المصدر، الذي طلب عدم الكشف عن اسمه، أن "الحزب (الاتحاد) يشهد انحرافاً سياسياً واضحاً، وهناك استيلاء على القرار السياسي، ناهيك عن الموارد المالية"، مؤكداً لـ"العربي الجديد" أن "هذا الانحراف انعكس على طريقة التعامل مع الأعضاء السابقين في الحزب، والخصوم السياسيين لبافل طالباني داخل مدينة السليمانية".
في السياق، كتب الناشط العراقي محمود الدباغ، على منصة "إكس": "التضييق على الحريات لم يعد يقتصر على بغداد فحسب، حيث استولت قوات الكوماندوز على مؤسسة "جاودير" في السليمانية التي يشرف عليها المفكر السياسي والقيادي الكردستاني ملا بختيار، كما أن هكذا ممارسات هي تعدٍّ واضح على الثقافة وحرية التعبير وإشارة واضحة للتراجع الحاد في الديمقراطية".
التضييق على الحريات لم يعد يقتصر على بغداد فحسب، حيث استولت قوات الكوماندوز على مؤسسة "جاودير" في السليمانية التي يشرف عليها المفكر السياسي و القيادي الكردستاني "ملا بختيار"، كما ان هكذا ممارسات هي تعدٍ واضح على الثقافة و حرية التعبير وإشارة واضحة للتراجع الحاد في الديمقراطية . pic.twitter.com/s9knKQ8uer
— Mahmood Aldabbagh (@Mahmood0Dabbagh) September 7, 2024
أما الناشط عبد المنعم وسام، فقد أشار إلى أن "مركز "جاودير التنويري" يمثل منارة للتفكير النقدي وتعزيز القيم الإنسانية التي يسعى المجتمع لتحقيقها. وإن أي محاولة لإسكاته أو تقييد نشاطاته تمثل تجاوزاً صارخاً على مبادئ الديمقراطية وانتهاكاً واضحاً للحريات الأساسية، ويشكل تهديداً جدياً للتنوع الفكري وحرية التعبير".
إن مركز "جاودير التنويري" يمثل منارة للتفكير النقدي وتعزيز القيم الإنسانية التي يسعى المجتمع لتحقيقها.
— Abdul Munem Wissam (@abdul_munem_w) September 7, 2024
وإن أي محاولة لإسكاته أو تقييد نشاطاته تمثل تجاوزاً صارخاً على مبادئ الديمقراطية و انتهاكاً واضحاً للحريات الأساسية، ويشكل تهديداً جدياً للتنوع الفكري وحرية التعبير. pic.twitter.com/JIJhBqoH7H
وشهدت السليمانية، خلال العامين الماضيين، عدة مواجهات مسلحة بين قطبي الحزب، بعد تصاعد حدة الخلافات، التي تفجرت بإجراء تغييرات في المناصب الهامة بالمحافظة، تحديداً منصبي رئاسة "مؤسسة المعلومات"، ومؤسسة "مكافحة الإرهاب" في السليمانية، لكنها استمرت حتى سيطر بافل الطالباني على رئاسة الحزب وحده.
وكان الحزب يدار منذ وفاة جلال الطالباني في 2017 بالشراكة بين بافل الطالباني، مدعوماً بوالدته هيرو إبراهيم أحمد (زوجة جلال الطالباني)، ولاهور شيخ جنكي، ابن شقيق الطالباني والقيادي الفاعل بالحزب. لكن في مطلع أغسطس/ آب 2021، قاد بافل الطالباني حملة على لاهور شيخ جنكي وأعضاء آخرين من قيادة الحزب، وجردهم من مناصبهم.