في رد فعله على العملية التي وقعت على معبر الكرامة أول من أمس، أكد رئيس حكومة إسرائيل بنيامين نتنياهو، أنه ما زال بعد ثلاثة عقود أمضاها في مقعد رئيس الحكومة، أو على مقربة أو تماس منه، مغامراً، يفتقد للحكمة السياسية، التي عادة ما تقود دولاً وشعوباً، خاصة في مفترقات الطرق التاريخية إلى رحاب المستقبل، وقد أثبت مجدداً أنه ما زال صاحب شعارات سياسية تحريضية، تهدف فقط إلى كسب تأييد ناخبين متطرفين، لا يمكن معهم صنع التاريخ، ولا فتح أفق التعايش مع الغير، فضلاً عن أن رد فعل الرجل أظهر بما لا يدع مجالاً للشك، بأنه يجافي الحقيقة، ويبتعد عنها تماماً، بما يعني شيئاً واحداً، وهو أن نتنياهو ما دام رئيساً لوزراء إسرائيل فإنه سيقودها إلى التهلكة.
نتنياهو قال في افتتاح الجلسة الأسبوعية لحكومته حول العملية، إن السبب يعود إلى كون إسرائيل محاطة بأيديولوجية قاتلة تقودها إيران، وكأن إيران في حالة عداء مع إسرائيل منذ ثمانين عاماً.
وإسرائيل ما دامت قد انعدمت فيها الرؤية الإستراتيجية - على الأقل - في المستوى السياسي الحكومي المقرر، وهو يضم هذه الجوقة من الفاشيين ستظل إسرائيل في حالة من العمى السياسي، الذي يضعها بين خيارين لا ثالث لهما، وهما أن تظل ترى بين قدميها، أي في إطار ضيق هو المساحة المحدودة بين بن غفير/سموتريتش والليكود، أو أن تظل تحلم بتحقيق أفكار وأيديولوجيا اللاهوت التي عبر عنها دونالد ترامب حيث قال إنه يحلم بتوسيع الجغرافيا الإسرائيلية، والتي يلخصها الفاشيون بشعار أرض إسرائيل الكاملة، حيث يعتقدون أنه قد آن الأوان، أو أن الوقت بات مناسباً لمواصلة حرب التهجير والإبادة، لكل من فلسطينيي قطاع غزة والضفة الغربية والقدس بالطبع، باتجاه مصر والأردن، حيث لا يمكن لإسرائيل أن تنتهي أخيراً من وضع أسس استقرارها دون حدود معلنة وواضحة، أقلها هي حدود فلسطين الانتدابية التاريخية.
ونتنياهو يصر وهو يسعى إلى الحفاظ على موقعه الرسمي، على قيادة إسرائيل بوجهة لا توافق عليها المؤسسات الأمنية ذات الاختصاص، وهو يتجاهل كل التحذيرات الأمنية، سواء التي تأتي من الأجهزة الأمنية خاصة الشاباك، أو من الجيش نفسه، والتي تحذر منذ زمن بعيد ليس من استمرار الحرب على غزة، لأسباب أمنية عسكرية بالأساس، أي وفق اختصاصهم، ناهيك عن الأسباب السياسية الخارجية والاقتصادية وغيرها، ولكن أيضاً من التصعيد المتواصل في الضفة وعلى أكثر من صعيد، الصعيد العسكري المتواصل منذ عامين ونصف العام، أي منذ إطلاق عملية كاسر الأمواج، وما تلاها ورافقها من خنق اقتصادي باحتجاز أموال المقاصة، ومن استفزازات في الأقصى، ومن إرهاب المستوطنين الممارس بشكل غير مسبوق ضد المواطنين الفلسطينيين، وبالطبع إضافة إلى مواصلة حرب الإبادة على قطاع غزة.
والسبب بات معروفاً لكل الدنيا، وهو أن مقود نتنياهو بات بيد بن غفير، الذي على عكس وجهة التهدئة، ومقابل التعقل يطالب بمزيد من الجنون السياسي، نقصد أنه يطالب نتنياهو بأن تشمل أهداف الحرب تحقيق النصر على الضفة؛ لأن الهدف لديه واحد، وهو حرق الأرض الفلسطينية بالكامل لضمها لإسرائيل، وذلك بوضع الفلسطيني بين خياري الموت أو التهجير، ولا خيار ثالث بينهما.
فيما الضباط وقادة الجيش وأجهزة الأمن، يحذرون ليل نهار نتنياهو من تحريض وأفعال بن غفير وسموتريتش، التي لا تؤجج الوضع بالضفة وحسب، بل في العالم العربي كله، هكذا فإن الأفق لا يشير إلى أن هناك حلاً قريباً، لا بالمعنى العسكري ولا بالمعنى السياسي، فإذا كان قطاع غزة، ما زال رغم كل القتل والدمار والتجويع، رغم ضربه بقوة تدمير تعادل بضع قنابل نووية، إلا أنه ما زال يقاوم، بل إنه أنهك الجيش الإسرائيلي.
وما دامت إسرائيل محكومة بالثالوث الفاشي، نتنياهو/ بن غفير/سموتريتش، فإنها لن تتعقل وتتراجع عن السير في هذا الطريق الخطير من حيث إنه يلحق الضرر والدمار والقتل بكلا الجانبين، لكنه ينتهي بهزيمة إسرائيل.
ذلك أن مقاومة واحدة ضد الاحتلال الأجنبي الخارجي لم تنهزم، فيما احتلال خارجي أجنبي لم يدم إلى الأبد، وقد جربت إسرائيل الحروب من قبل، وجربت السلام مرة واحدة فقط، وحين كانت تصر على مواصلة طريق الحرب، ورغم أنها كانت تحقق فيها النصر السريع والخاطف، إلا أن الانتصار في معركة لم ينهِ الحرب، لكنها حين جربت السلام الحقيقي مرة واحدة، وكانت مع الطرف الآخر الحقيقي، وهو الطرف الفلسطيني، ذلك أن الصراع أساسه فلسطيني/إسرائيلي، وغير ذلك امتدادات إقليمية أو دولية، وكما أن أميركا حليف لإسرائيل، كذلك كانت مصر وسورية واليوم اليمن ولبنان وحتى إيران هم حلفاء لفلسطين، حين جربت إسرائيل السلام مع الجانب الفلسطيني في أوسلو، ورغم أنه كان اتفاقاً مؤقتاً أو أولياً، إلا أنه جلب وراءه فوراً اتفاق وادي عربة، وحقق هدوءا استمر أعواماً، ما بين عامي 1993 - 2000، فيما انفجار العام 2000 وقع بسبب وجود من كان على شاكلة بن غفير على الجانب الإسرائيلي، نقصد أرئيل شارون الذي باقتحامه المسجد الأقصى حينها أشعل الانتفاضة الثانية، والتي سميت انتفاضة الأقصى بالمناسبة، واستمرت 4 أعوام إلى العام 2004.
لكن تمسك الجانب الفلسطيني بأوسلو أبقى على الهدوء، خاصة في الضفة الفلسطينية عقدين بعد ذلك، وقد حقق أوسلو للطرفين مكاسب سياسية، على عكس ما تجلبه الحرب من دمار وقتل لم يعد قصراً على طرف واحد، وهذا الدرس يمكن لعقلاء إسرائيليين أن ينتبهوا إليه، قبل فوات الأوان، وقد أكد اتفاق السلام حقيقة وجود الدولة الفلسطينية الناقصة، وباعتراف إسرائيلي ظهرت السلطة كمشروع دولة، وليس كسلطة حكم ذاتي نهائي، لو وافق الفلسطينيون عليها، كما اقترحت كامب ديفيد 77 مثلاً، لظلت إلى الأبد سلطة حكم ذاتي، فيما الإسرائيليون حصلوا على أمن استمر عشرين سنة، والآن بعد أن أغلق الباب دون التوصل للحل النهائي، فإن الأمر الطبيعي هو ما يظهر اليوم من مقاومة للاحتلال، خاصة حين يظن المحتل أنه قد آن الأوان لحسم الصراع بما يؤبد الاحتلال، وبما يتضمنه ذلك من نفي تام للآخر الفلسطيني.
ويترافق ذلك بتعريض مصالح دول الجوار للخطر، ذلك أن تهجير سكان قطاع غزة إلى مصر وسكان الضفة إلى الأردن، لا يجلب الفوضى للدولتين اللتين عقدتا اتفاقيتي سلام سابقتين مع إسرائيل وحسب، بل يضعهما في مواجهة التوسع الإسرائيلي التالي، أي يضعهما على حدود الحرب والتوتر المباشر مع إسرائيل، ثم يلي ذلك فتح أبواب الخطر على كل الإقليم، فإسرائيل هي التي تناصب إيران العداء وتحرض عليها منذ عقود، وبالتحديد منذ أكثر من ثلاثة عقود، حيث إن إسرائيل بعد أن كانت لها مصلحة في الحرب بين إيران والعراق خلال ثمانينيات القرن الماضي، وجدت في الخبرة العسكرية لكلا البلدين بعد أن وضعت تلك الحرب أوزارها، خطراً عليها، وهي التي تسعى إلى جعل كل المحيط هشاً من حولها، لذلك سعت إلى الحرب على العراق ونجحت، وحينها قالت إن الحرب التالية على إيران، وها هي ما زالت تحاول.