ترك برس
قال ياسين أقطاي، الأكاديمي والبرلمان التركي السابق إن بدء العام الدراسي الجديد في تركيا بدرس خاص بعنوان "من جناق قلعة إلى غزة.. روح الاستقلال وحب الوطن"، هو خطوة بالغة الأهمية لمساعدة الأجيال الجديدة على فهم أنفسهم ودينهم وأمتهم وتاريخهم فهماً صحيحاً.
وأضاف أقطاي في مقال له على صحيفة "يني شفق'' التركية: "أود أن أهنئ وزير التربية الوطنية يوسف تكين على شجاعته وثقته وقرارته الحاسمة، حيث أصر على البدء بهذا الدرس رغم كل الاعتراضات والانتقادات التي وجهت إليه من بعض الأوساط".
وشدد على أنه "لا عجب أن يستهدف هؤلاء الوزير، فمن الواضح جدًا من يخدمون وما هي أغراضهم. إن الجرائم اللاإنسانية التي يرتكبها الكيان الصهيوني المحتل في غزة منذ ما يقارب العام يجب أن تكون قضية محورية لكل إنسان لديه ضمير. ومن لا يرى ذلك فهو شريك في جرائم الإبادة الجماعية التي يرتكبها الصهاينة، أو أنه غافل و ضال على أقل تقدير. وفي الحالتين، ليس هنالك ما يبرر موقف هؤلاء الأشخاص".
وتابع المقال:
إن شدة استياء هؤلاء الأشخاص من مقارنة غزة بـ جناق قلعة، كرمزين للاستقلال وحب الوطن، يكشف بوضوح عن مدى غربتهم عن روح جناق قلعة التي يدّعون تبنيها. فبعدهم عن جناق قلعة، حال بينهم وبين إدراك أنّ غزّة هي الأخرى تجسّد روح الاستقلال التركي. فهم لا يعرفون أنفسهم ليعرفوا فلسطين، ولا يعرفون جناق قلعة ليعرفوا غزة. فهم يجهلون أن الدفاع عن الوطن الذي جرى في جناق قلعة جرى مثيله في غزة. كما أنّهم لا يعلمون أنّ الجيش البريطاني قد واجه مقاومة بطولية أسطورية في غزّة مرتين قبل أن يتمكن من احتلالها في هجومه الثالث الضخم عام 1917 باستعدادات كبيرة. ولم يتم تسليط الضوء بعد على الدور الحاسم الذي لعبته الصراعات الداخلية وانعدام الانضباط في الجيش العثماني في سقوط غزّة، وليس فقط قوة الجيش البريطاني. كما يتوجب عليهم أن يعرفو أن جناق قلعة قد سقطت في قبضة الأعداء بعد عام واحد من سقوط غزّة.
كان الدفاع عن جناق قلعة يجري في غزة، وكانت غزة جزءًا لا يتجزأ من الوطن مثل جناق قلعة. ولم يكن من يقاتل في غزة من أهل غزة فقط، بل كان هناك أيضًا من جاء من الأناضول والبلقان وغيرها من المناطق العربية.
وبالطبع، كان هناك خونة كما في الأناضول، وبنفس القدر أيضاً. وكما أن الحرب لا تخلو من الأبطال كذلك لا تخلو من الخونة. ولكن تبرير الخيانة بوجود الخونة، والعمل على تدمير النسيج الذي يجمع الأمة منذ قرن من الزمان، وأن تُبنى حدود تفصل بين من يجب أن يكونوا أصدقاء وأشقاء، هو في حد ذاته خيانة. إنه دليل واضح على استمرار سيطرة قوى الخيانة التي أوصلتنا للحرب وفقدان جزء كبير من وطننا.
وللأسف، لم يركز نظامنا التعليمي على توحيد الشعب وتقريب المسافات وتعزيز المحبة بين مختلف مكوناته، بل سعى إلى خلق فجوات بين أبناء الوطن الواحد، وتركيز الأنظار على أعداء وهميين بدلاً من الأعداء الحقيقيين الذين يهددون وجود الأمة.
إن عبارة "خيانة العرب" التي تُطرح عند ذكر غزة، للأسف، قد رسخت في أذهان الأجيال كجزء من الخطاب الرسمي لسنوات طويلة. لقد تجاهل هذا الخطاب وجود مئات الآلاف من العرب والكُرد والهنود المسلمين الذين قاتلوا واستشهدوا في صفوف جيش الدولة العثمانية في جبهات مختلفة، مثل جناق قلعة وفلسطين والعراق والحجاز واليمن. وفي المقابل تم التركيز بشكل مبالغ فيه على تعاون بعض العرب مع البريطانيين، وكأن هذا التعاون هو الذي حسم مصير الحرب. بينما تم التغاضي عن خيانات بعض الضباط العثمانيين الاتحاديين وإخفاقاتهم وعدم كفاءتهم، الذين كان دورهم أكبر وأكثر تأثيرًا في هزيمة الجبهة الفلسطينية.
فما هي الدوافع وراء تلك الخيانات؟ هل كانت دوافع دينية يهودية أو عرقية وعنصرية، أم طمعًا في المناصب، أم بسبب قصور في الكفاءة أو الرؤية أم التمرد والعصيان؟ كان هناك عدد لا يُستهان به من اليهود في صفوف الجيش البريطاني الذين قاتلوا ضدنا في جبهتي جناق قلعة وفلسطين. كما كان هناك من عملوا في الجيش العثماني وقاموا بالتجسس الذي أثر على سير المعارك وغير مجراها. ومع ذلك، لم يتم التركيز على خيانات هؤلاء، بل تم التركيز على خيانة بعض البدو العرب الذين سهل عليهم التحول إلى صفوف العدو بتحريض منهم.
عندما فرّ اليهود من الإبادة الجماعية في إسبانيا، لجؤوا إلى الدولة العثمانية، حيث عاشوا بأمان لم يشهدوه في أي مكان آخر من العالم لمدة 400 عام تحت الحماية العثمانية. لكن هؤلاء اليهود قاموا بخيانة العثمانيين في معارك مثل جناق قلعة وغزة، وتعاونوا مع أعداء الدولة العثمانية. وكان لهذه الخيانة تأثير كبير على مجريات الحرب، وبعد سقوط الدولة العثمانية، أصبحوا أيضًا أصحاب السلطة في الشرق الأوسط الذي أقيم على الأراضي العثمانية. ومنذ ذلك الحين، ارتكبوا جميع الجرائم في المنطقة حتى يومنا هذا.
إن الأنظمة العربية التي ننتقدها اليوم ونغضب منها بسبب خيانتها هي في الواقع جزء من النظام الصهيوني. فهي لا تملك قيمة عسكرية مستقلة بمعزل عن هذا النظام. ومع ذلك، فإن المناهج الدراسية لدينا تتجاهل تمامًا هذه الخيانة الحاسمة والمدمرة، وبدلاً من ذلك تحدد أصدقاءنا وأعداءنا وفقًا لرؤية صهيونية. فالعداء بين العرب والأتراك، وبين الأتراك والأكراد، وبين الأكراد أنفسهم، هو شرط وجزء من هذا المشروع الصهيوني. وكل شيء يسير وفقًا لخطط هؤلاء الخونة والمحتلين. إن الخطوة الأولى لتصحيح هذا الوضع هي إعادة كتابة التاريخ بشكل صحيح وعادل.
غزة هي المكان الذي سقط فيه هذا الشعب الشجاع، وهي المكان الذي سينهض منه مجدداً. إن تدريس قصة غزة اليوم كأول درس في العام هو أمر إنساني بالدرجة الأولى. ويجب أن يكون الاهتمام وعدم التهاون بمكان شهد جريمة إنسانية بهذا الحجم هو أول درس يتعلمه الطلاب. كما يجب أن يروا في مقاومة أهل غزة مثالاً عظيماً على حب الوطن والتضحية من أجله. فهم يعلمون البشرية جمعاء معنى الدفاع عن الوطن والحرية. فبدلاً من التمسك بقصص أسطورية لا أساس لها من الصحة، يجب علينا أن نستلهم العبر من الأحداث الحقيقية التي تجري أمام أعيننا. وأن نرى الجسر الممتد من جناق قلعة إلى غزة، حيث تكتب ملحمة وطنية حقيقية.
لذا، فإن الجزء الثاني من القضية يتعلق بتصحيح وعينا التاريخي والوطني. فنحن نعيش في ظل تصورات تاريخية خيالية بعيدة كل البعد عن الواقع، وأكثر بعدًا مما هو متوقع عن القيم الإنسانية والوطنية. وعندما نحاول تصحيح هذه التصورات، فمن الطبيعي أن نواجه همهمات، وتذمر و مقاومة شرسة من أولئك الذين غسلت أدمغتهم بالفكر الصهيوني، فهذا جزء لا مفر منه من النضال الذي يجب أن نخوضه. ومهما قال البعض، فإننا عازمون على مواصلة مسيرتنا في هذا الطريق الذي يفضي إلى يقظة حقيقية.