أستوديوهات هوليود والمقاومة فرط الصوتية
ليست الجولة الأولى من الصراع المزمن بين الحق والباطل، وقد لا تكون الأخيرة، لكن ما نجحت المقاومة في تثبيت معالم هويته ثقافة ونهجاً وسلوكاً فرض العديد من المتغيرات التي ترقى إلى مستوى المتغيرات الجوهرية والبنيوية في الفكر العسكري والعلاقات الدولية بآن معاً، وإذا كانت استوديوهات هوليود وغيرها ما تزال قادرة على إنتاج ما يتفتق عنه الفكر الإبليسي من أفلام ومنتجات مكرسة لتثبيت الشخصية السوبرمانية المطلوب ترسيخها في العقل الجمعي للأفراد والدول والمجتمعات، إلا أنها لم تعد كما كانت عليه في الأمس القريب.
فتوحش النيوليبرالية التي اكتسحت العالم بعد تمكن المحافظين الجدد من السيطرة والتحكم بغالبية مفاصل صنع القرار الأمريكي، وجدت نفسها أمام تحديات مفصلية أبدعها صمود محور المقاومة بمختلف أطرافه ومكوناته، ويقينه بإمكانية مواجهة تسونامي التوحش مهما امتلك مروجوه من أدوات قتل وفتك وتدمير وإبادة، وهذا ما أسفر أولاً عن تشوش في الرؤية لدى من ظنوا أنهم أصبحوا سادة الكون إلى ما لانهاية، الأمر الذي أدى إلى ارتجاج دماغي جراء البون الشاسع بين المُتَوَهَّم والواقع، وقد ساهم في زيادة التأثيرات التفاعلية لاصطدام المنشار الأمريكي بالعقدة المقاومة الكأداء تلك العنجهية والفوقية والغطرسة الأنكلوساكسونية التي تنظر بازدراء إلى البشرية بكليتها وقيمها وحضارتها وإمكانياتها وحقوقها، انطلاقاً من أن الطاقة التدميرية التي تفوق التصور كفيلة بتكميم الأفواه وخنق الأصوات قبل اهتزاز الحبال الصوتية لأية دولة أو أمة أو تكتل.
وقد يرى العديد من المتابعين أن ذاك المنطق الاستكباري له مبرراته، انطلاقاً من أن هذا الجبروت العسكري التدميري رهن إرادة متوحشة لا تقيم وزناً لإنسانية الإنسان، ولا ترى في كل المنظمات الدولية والهيئات والمؤسسات التي تعنى بالشأن العام للمجتمع الدولي إلا منصة متقدمة لفرض تلك الإرادة الإجرامية المؤمنة بأن تاريخ الدول كبيرها وصغيرها يفقد هويته الذاتية قبل أن يجثو على بوابات واشنطن متوسلاً الإبقاء على حياة الناس وفق ما تريده الدولة العميقة، وبما ينسجم وحاجتها للخدم والعبيد وبقية البشر المنتمين إلى طبقة دنيا في سلم اهتمامات أصحاب نظرية المليار الذهبي، والبدء العملي بتطبيق ذلك أمام بصر العالم وسمعه، فالقوى العظمى بعد انهيار الاتحاد السوفييتي قبلت ببعض الميزات التفضيلية الممنوحة دبلوماسياً شريطة عدم إغضاب واشنطن، وتحاشي غضبها ما أمكن بكل السبل الممكنة، لأن أية سياسة أخرى تعني الدخول في نفق الاضمحلال وتلاشي الفاعلية.
الاستثناء شبه الوحيد الذي خرج عن سكة القطار الأمريكي بقي محصوراً بأقطاب محور المقاومة، وبعض الدول الموضوعة في بوتقة الحصار الأمريكي الخانق مثل كوريا الشمالية وكوبا، وعلى الرغم من الهوة غير القابلة للجسر، واستحالة المقارنة بين القدرات والإمكانيات وعوامل القوة الشاملة لأمريكا ومن يدور في فلكها، وبين ما يمتلكه هذا العدد القليل الذي لا يتجاوز أصابع الكف الواحدة من دول وتنظيمات مقاومة تبين بالقرائن الدالة ومعطيات الواقع أن أمريكا فعلاً ليست قدراً لا يمكن مواجهته، وثبت أن فاتورة إغضاب الدولة العميقة التي تقود البوارج والأساطيل الأمريكية كبيرة وباهظة، لكنها أقل بكثير من فاتورة إرضائها.
ومنذ اللحظة التي رفضت فيها سورية الأسد الإذعان لصك الإذعان والإملاءات التي أتى بها كولن باول بعد احتلال العراق بدأت معالم جديدة تتبلور وتظهر على السطح لكل من يرغب بقراءة الحقيقة بعيداً عن تشويق السينما الهوليودية بمختلف منتجاتها التسويقية المجتمعية والعسكرية والاقتصادية والثقافية التي تقولبت آخر صرعاتها في المثلية ومحاولة فرضها على الجميع عنوة، وهذا ما لا يمكن أن يكتب له النجاح، لأنه معاكس للفطرة البشرية التي فطر الله الناس عليها، وطالما أن الأرض معمورة ولو بأعداد قليلة ممن يعشقون الحق، ويعدون العدة لامتلاك الوسائل المشروعة للدافع عن النفس وتحصين الكرامة مهما بلغت التضحيات، وطالما أن إرادة أصحاب الحق وطلابه عصية على المصادرة فنتائج أية جولة من جولات المواجهة محكومة خواتيمها بالنصر بغض النظر عن الخسائر الفادحة بشرياً ومادياً، ومع كل جولة حامية من جولات الصراع المزمن تستطيع فيها المقاومة الاستمرار في الوجود والحياة تتكسر أنياب جديدة لفراعنة العصر وجلاوزته، وتُقْتَلَعُ مخالب سامة لطالما كانت تنشب في أجساد الضحايا.
ولمن يود التأكد من صحة هذا الاستنتاج أن يعود إلى تفاصيل حرب تموز وآب 2006م. وكيف استطاع حزب الله كسر أنف تل أبيب وواشنطن ومعهما بقية الرعيل الذي يعيش اليوم أسوأ حالاته خشية التيتم الحتمي بعد إذلال نتنياهو وداعميه في هذه الجولة من جولات الصراع المرشح للامتداد سنوات طويلة إن لم يكن عقوداً، ومن المهم جداً هنا إجراء مقارنة ذهنية سريعة بين ما كان يمتلكه حزب الله عام 2006، وبين ما يمتلكه اليوم.
مع استمرار العجز الصهيوني عن الاقتراب من السقف العالي الذي رفعه الكيان المؤقت بعد ساعات قليلة من إقدام أبطال حزب الله على أسر جنديين إسرائيليين في 12 تموز 2006 عاد بعد 33 يوماً ليتوسل بين يدي ولية نعمته واشنطن لاستصدار قرار بوقف إطلاق النار بأي شكل كان، ومنذ ذلك التاريخ والمقاومة تراكم أوراق قوتها وتزداد فاعلية وقدرات نوعية، وعلى امتداد تلك السنوات كانت الجمهورية الإسلامية في إيران تكمل حبك القطبة الأخيرة في السجادة العجمية النووية التي أقر العالم بمشروعيتها في عام 2015م.
ولم تسفر حماقة ترامب بتمزيق الاتفاق النووي لاحقاً إلا عن المزيد من العمل الجاد والهادف والمسؤول لإعطاب ما تبقى من قدرة سمية مميتة في المخالب والأنياب الأنكلوساكسونية التي استنفرت جميعها لحماية الجزء المهم في مشروع نهاية التاريخ ممثلاً بالكيان اللقيط الذي لم يعد لديه ما يقدمه إلا رفع سقف التهديدات، وممارسة المزيد من الإجرام والقتل والتدمير والإبادة الجماعية، وكل ذلك يتحول تلقائياً إلى مسامير تٌدَقُّ في نعش الكيان اللقيط.
كثيرة هي الرسائل التي توزعها أقطاب محور المقاومة على الجميع، والجميع ملزم بقراءة هذه الرسائل التي تتهادى تباعاً فبالأمس فير البعيد وصلت الصواريخ والطائرات المسيرة الإيرانية إلى قلب الكيان للرد على عدوانيته وتوحشه باستهداف السفارة الإيرانية في دمشق، وعلى الرغم من استنفار قوى الناتو مجتمعة ومعها بعض أعراب المنطقة إلا أن الأهداف التي تم تحديدها وصلتها الصفعة وفق ما تم رسمه وتنفيذه، وبالأمس القريب كان مقر الوحدة 8200 في غليلوت، يستغيث وأشلاء ضباطه وجنوده تتناثر فتصل إلى الصحافة الأمريكية والأوربية الأطلسية التي أكدت ما حاول مقص الرقابة العسكرية الإسرائيلية الصارم حجبه عن الرأي العام، ولا أدري إن كانت ألسنة اللهب وأعمدة الدخان ما تزال تخفي المزيد مما يمكن أن تتكشف بعض تفاصيله في الغد أو بعد الغد، وبالأمس الأقرب والأشد وضوحاً وصلت الرسالة فرط الصوتية اليمنية على رأس صاروخ باليستي مبارك قطع مسافة /2040كم/ في إحدى عشرة دقيقة ونصف، وأصم آذان نتنياهو وغالانت اللذين افتخرا وتباهيا سابقاً بأن الشرق الأوسط يرى لهيب غاراتهم الإجرامية على الحديدة اليمنية، ومن حق كل شخص في الكون أن يسأل هذين المجرمين: هل رأى الشرق الأوسط والعالم أيضا ألسنة اللهب وأعمدة الدخان ترتفع على مشارف تل أبيب أم لا؟
والغريب بعد كل هذا ألا يخجل بعض أصحاب الأقلام المأجورة من العزف على الوتر المقطوع والنفخ في القربة المثقوبة والتهويل من حرب إسرائيلية لا تبقى ولا تذر، ويسوقون السيناريوهات التي كتبت تفاصيلها في أقبية الموساد، أو في الغرف المحصنة التي اعتاد نتنياهو وبقية أركان حكومته العنصرية التواري فيها مع كل صافرة إنذار تنطلق، وبين الصافرة والصافرة صافرة تصدع رؤوس المجرمين الإرهابيين في واشنطن وتل أبيب، ومع ذلك لا يمل الدونجوانيون الجدد من اجترار اليأس والقنوط، ومحاولة التهويل والتخويف بحرب قد تشتعل في أية لحظة، وقد تناسى أسياد أولئك أو تغافلوا عن حقيقة أن الكثيرين من عشاق المقاومة يتلهفون بانتظار تلك اللحظة لضمان إغلاق استوديوهات هوليود، وختمها بالشمع الأحمر بعد انتهاء صلاحياتها وفشل الإمبراطوريات الإعلامية التابعة لها في أمرين جوهريين: الأول خاص بزعزعة ثقة عشاق المقاومة بجدواها، وهي في كل يوم تثبت أنها الأنجع والأكثر مردودية، والثاني خاص بطمأنة الرأي العام داخل الكيان الإسرائيلي والولايات المتحدة الأمريكية بأن هيبة الردع لما تتآكل تماماً بعد، فالهيبة تآكلت، والردع تلاشى، والعقاب قادم، والنصر حتمي وقريب، وهذا وعد الله، وحاشا لله أن يخلف الميعاد.