ترك برس
تناول الكاتب الصحفي التركي نيدرت إيرسانال، مواضيع محورية تتعلق بالصراعات الحالية في الشرق الأوسط وأوكرانيا، معتمدا على تحليل شامل للأحداث السياسية والدينية.
ورأى إيرسانال في مقال بصحيفة يني شفق أن إعلان إسرائيل عن حالة الطوارئ لمدة أسبوع، وإصدار نتنياهو تعليماته لشعب لبنان بترك منازلهم ـ والتي يبدو أنهم استجابوا لها ـ وما يحدث في بيروت، بالإضافة إلى إعلان الولايات المتحدة، التي تمتلك بالفعل 40 ألف جندي في المنطقة، عن إرسال تعزيزات بحجة "احتمالية انتشار الحرب"، وهو ما يهدف في الحقيقة لحماية إسرائيل من خلال إمدادها بأسطول طائرات حربية، كلها عوامل قد تشكل أكبر سخرية وتحدٍ في ظل مشهد اجتماع الأمم المتحدة الذي تتشارك فيه قضيتي فلسطين وأوكرانيا جدول أعمالها.
وقال: "يمكنكم انتقاد الدول الإقليمية التي تواصل إدانة واستنكار الهجوم الإسرائيلي على لبنان، واعتبار ذلك تعبيراً عن العجز واليأس، فأنتم محقون في ذلك. ولكن الأمر نفسه ينطبق على موقف أوروبا تجاه أوكرانيا. بل إنهم لا يقومون حتى بالإدانة والاستنكار. فكل ما تطلبه الولايات المتحدة وبريطانيا ينفذونه فوراً دون تردد، ورغم أن بعض الأصوات قد تعبر عن القلق بين الحين والآخر، إلا أنهم يهرعون للبحث عن مخرج عندما يُقال لهم "توقفوا". بل إن الانقسامات بين الولايات المتحدة وبريطانيا حول حدة الصراع لا تدفعهم إلى التخلص من خنوعهم واتخاذ موقف مستقل".
ووفقا للكاتب، يبدو أن الاهتمام المتزايد بلبنان يتحرك نحو بعد جديد، كأنه يعبّر عن شعور بأن "غزة قد انتهت، فلننتقل إلى مكان آخر" وعند طرح الأسئلة على الولايات المتحدة، لن تسمع سوى كلمات مُتسمة بالوقاحة، تعبر عن عدم المبالاة وتحمل في طياتها إهانة صريحة للبشرية، مثل: "لقد الأمر طال كثيراً، يجب تخفيف حدة التوتر".
وتابع المقال:
عندما بدأت إسرائيل ارتكاب جرائم إبادة جماعية في فلسطين، كان النقاش يدور حول حركة حماس لفترة طويلة. والآن نتحدث عن حزب الله. صحيح أن هذه المنظمات لن تختفي، ولكنها وحدها غير قادرة على مواجهة "الأسطول الحربي" الذي يواجهها. بالتأكيد يمكنها إلحاق الأذى بإسرائيل وإبطاء تقدمها، وهذا حق مشروع للمقاومة، ولكن المشاكل لا تحل بهذه الطريقة.
بالإضافة إلى ذلك، فإن السياسات الخاصة ببعض الدول التي تدعم هذه الجماعات ليست مستقرة. فالتحركات السياسية غير محددة ولا يمكن التنبؤ بها ومعرفة متى ستتغير مواقفها. لذا من الضروري إجراء تحليل أعمق لفهم الأبعاد الحقيقية لهذه الأحداث.
استراتيجية إخلاء "مساحات الحياة" وميراثها
إن نقطة انطلاق الحرب في أوكرانيا ليست كما يُشاع من الممارسات منذ عام 2014، بل هي خطة استراتيجية تهدف إلى تقويض مكانة روسيا كقوة عالمية. ولهذا قررت إنجلترا والولايات المتحدة أنه يجب خفض مساحات حياة هذه "الإمبراطوريات القديمة" كما صرح بوريس جونسون في مقال له بصحيفة "ذا سبيكتاتور" بتاريخ 21 سبتمبر 2021 "حان الوقت للسماح لأوكرانيا بالانضمام إلى حلف شمال الأطلسي"
ويمثل الوضع في أوكرانيا الشكل الأكثر وضوحًا لهذه العقلية. بالطبع هناك أبعاد أخرى مثل تعزيز التحالف الأطلسي، والمخرجات الاقتصادية، وتجارة الأسلحة، والصين، وغيرها، لكن جوهر المسألة يتمثل في إضعاف روسيا.
أما قضية إسرائيل، فهي إحدى نتاجات هذه العقلية ويمكن أن تُقرأ أيضًا كخطوة دفاعية. فالدفاع عن موقع متقدم في الشرق الأوسط ضد محاولات الوصول إلى أقصى حد تاريخي في المنطقة، أي التصدي لفكرة هيمنة روسيا والصين على المنطقة والربط بين أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط والبلقان، وكذلك السيطرة على الخليج، يعتبر بمثابة الدفاع عن نقطة متقدمة. وهذا يشمل محاولة ربط خطوط غزة والضفة الغربية وجزء من الأردن ولبنان وسوريا مع الخطوط الموازية لإيران والعراق وسوريا والبحر الأبيض المتوسط، وهو ما يهدف إلى إفراغ إرث إمبراطورية أخرى، بل إمبراطوريتين إذا اعتبرنا طهران. ولا يُعد محور تركيا-إيران جديدًا، ولكن هناك تحديث نتيجة لتقدم الشرق في الجبهة...
عودة إلى "العهد القديم"
من المواضيع الأخرى المثيرة للاهتمام هي الطبيعة "الثيولوجية السياسية" للأحداث في أوكرانيا وإسرائيل. لقد تم تناول كل حالة على حدة، ولكن ما لا يُفكر فيه هو الروابط الثيولوجية السياسية التي تربط بين هذين الحدثين.
من أبرز الانتقادات الموجهة لإسرائيل هو أنها تستند إلى استراتيجية مبنية على مفاهيم مثل "الأرض الموعودة" و"القدس"، بل وحتى على استعارات دينية مثل "شرق الجنة" أو "مملكة السماء". وعلى نحو مماثل، تشهد أوكرانيا حالياً عملية تفكك تقوم على أسس دينية، وعلى وجه الخصوص على الخلافات بين الكنائس الأرثوذكسية. فصراع موسكو-إسطنبول-الفاتيكان-دمشق-كييف وغيرها على النفوذ الديني في أوكرانيا هو في جوهره صراع على النفوذ الغربي، وهو صراع يمتد جذوره إلى العهد القديم ويتصل بالتيارات المحافظة الجديدة.
هذه قضايا طويلة ومعقدة، ولكن هناك مفهوم "التفكيك" ودمج "جوهر" آخر. إننا نتجاهل "التناغم" من حيث حجم الحساب، لذا سأكتفي بالإشارة إلى ذلك وأتابع.
قوة الرئيس الجديد لن تكفي أيضًا..
من الواضح أن الوضع في أوكرانيا وإسرائيل سيستمر على حاله على الأقل في المدى القريب. ونحن نؤكد على "المدى القريب" لأننا نتوقع أن تؤدي الانتخابات الرئاسية الأمريكية إلى تحول في المشهد، وأن تسهم في تهيئة الظروف للسلام، أو على الأقل في فهم أعمق للأوضاع الجديدة في واشنطن.
لا يمكن توقع أن يتمكن الرئيس الـ 47 من جلب نظام جديد، فهذا لن يحدث.
لا أقول ذلك بناءً على المرشحين الحاليين. فترامب وهاريس يمثلان مصالح معينة وارتباطات برؤوس الأموال. ولا أقصد من ذلك أي اعتبار مادي. فهذه الأموال تضع تعريفات لجوانب الجيوسياسية والثيوسياسية، والاقتصاد، وستؤثر على هؤلاء الرؤساء وتوجهاتهم. ولكن لا يمكنها حل حالة عدم الاستقرار العالمي.
لذا منذ عدة أشهر، كنت أؤكد أن "انتخابات 2024 ليس لها معنى، انظروا إلى انتخابات 2028، الثامنة والأربعين، فعملية التغيير التي ستستمر حتى عام 2030 تحدد كيف سيواجه أولئك الذين يطالبون بتغيير الاتجاه العالمي نوعًا جديدًا من "الزعيم الأمريكي" والقياد الجديدة.
بمعنى آخر، حتى ذلك الحين، سيكون من المهم معرفة كيف سيخطط المعارضون للنظام القائم. يجب أن لا تنتهي المعارضة، التي قد تُوجَّه إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، برفض واحد فقط. فالنظام العالمي يسرع بالفعل من انهيار هذا النظام. والخلل الوظيفي في جوهره هو الصدأ والتكلس، حيث يصيب أولاً المفاصل ثم القلب.
ما يفعله الغرب هو "توقع النظام بعد الكوارث"، حيث يتم إنتاج هذه الكوارث وتغذيتها لكسب الوقت حتى الوصول إلى القوة القادرة على إنشاء النظام الجديد.
أما باقي الأطراف، فذنبهم هو استمرار التعاون مع هذا الانهيار. ولهذا، فإن الصمت على مقتل الأبرياء في فلسطين وأوكرانيا والآن في لبنان هو للأسف نوع من الاستسلام.