ترك برس
تسعى تركيا إلى تعزيز مكانتها على الساحة الدولية من خلال الانضمام إلى مجموعة "بريكس"، التي تضم كلاً من البرازيل، روسيا، الهند، الصين، وجنوب أفريقيا. وبينما تُطرح تساؤلات حول دوافع أنقرة لهذا التحرك، يبقى الجدل مفتوحاً حول ما إذا كان انضمام تركيا للمجموعة مدفوعاً بمصالح اقتصادية بحتة مثل تعزيز التجارة والاستثمار، أم أن هناك أهدافاً سياسية أعمق تتعلق بتوسيع نفوذها على المستوى الدولي وتطوير شراكات استراتيجية جديدة في مواجهة التحديات الجيوسياسية.
وفي هذا الإطار، سلط مقال على موقع "الجزيرة مباشر"، الضوء على دوافع تركيا الأساسية للانضمام إلى بريكس.
وفيما يلي النص الكامل للمقال لكاتبته صالحة علام:
مع التطورات الإقليمية والدولية التي يشهدها العالم، وتزايد احتمالات نشوب حرب موسعة في المنطقة، وتسابق دولها إلى إعادة ترتيب أولوياتها، وتبديل صيغ تحالفاتها، تحسبًا لما يمكن أن تسفر عنه التوترات المنتشرة على أكثر من جبهة، كان لزاما على تركيا مواكبة هذه التطورات، والعمل على انتهاج سياسات جديدة في العديد من المجالات تخالف ما اعتادته خلال العقود الماضية، في محاولة للحفاظ على المكاسب السياسية والاقتصادية التي حققتها، ولتحقيق مكاسب جديدة، والاستفادة من التحولات الكبرى والتغيرات المنتظرة التي يمكن أن يشهدها العالم.
وهذا -على ما يبدو- الدافع وراء إلحاحها المستمر والمتزايد لطلب الانضمام لعضوية مجموعة البريكس، مما أثار العديد من التساؤلات والتكهنات حول مغزاه والهدف منه في هذا التوقيت بالذات، خاصة أن تركيا تعد نفسها جزءا لا يتجزأ من الكيان الأوروبي، وتنتظر بفارغ الصبر قبول عضويتها فيه، إلى جانب علاقاتها التاريخية بالولايات المتحدة -وإن كانت متوترة حاليا- التي تناصب البريكس العداء لما يمثله من خطورة بالنسبة لها.
لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار ما يمكن أن يحصده الاقتصاد التركي من مكاسب شتى إذا ما تم قبول طلب انضمام تركيا إلى مجموعة البريكس باعتبارها كيانا اقتصاديا في المقام الأول، ولديها من الإمكانات الطبيعية والبشرية والقدرات التصنيعية ما يمنحها القدرة على منافسة أقوى التحالفات الاقتصادية المعروفة، بعد أن أصبحت تشكل حوالي ثلث الناتج المحلي الإجمالي العالمي، بما يعادل عشرين بالمئة من التجارة العالمية، متخطية بذلك حصة مجموعة دول السبع الكبرى.
وهو ما يحقق لتركيا العديد من الأهداف الهامة على مستويات عدة، فيمكنها من ناحية الاستفادة من أسواق المجموعة المتنوعة في زيادة حجم صادراتها، وتسويق منتجاتها بمختلف أنواعها الزراعية والصناعية، بصورة تمكنها من تحجيم الحاجة المتزايدة للدولار عبر تبادلات تجارية بعملات أخرى، وهو ما سيساهم في وقف تدهور عملتها المحلية، وتحسين قدرتها الشرائية، وخفض نسب التضخم لديها.
كما ستمكّن عضوية البريكس تركيا من تحقيق حلمها بأن تصبح مركزا عالميا للطاقة، خاصة بعد قبول انضمام أذربيجان إلى المجموعة؛ مما ينهي إشكالية التنافس الروسي الأذربيجاني حول مسألة تصدير الغاز إلى أوروبا، ويمنح تركيا القدرة على تصدير غاز كل من موسكو وباكو إلى دول أوروبا عبر خط أنابيب “توركش ستريم” بأريحية، وتعظيم مكانتها لدى دول الاتحاد الأوروبي في ظل احتياجها المتزايد للغاز مع استمرار الحظر الدولي المفروض على استيراده من روسيا مباشرة.
الانضمام إلى البريكس يسمح لتركيا أيضا بتوسيع حجم شراكاتها الاقتصادية، وتنويع مصادرها، وزيادة التعاون بينها وبين الصين في المجالات التقنية، والاستفادة من الخبرة الصينية الواسعة في هذا المجال، بواسطة جذب استثمارات بيجين إلى أراضيها في مواجهة الحصار الشديد المفروض عليها من جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وتحتاج إلى كسره عبر طرف ثالث لديه علاقات اقتصادية قوية مع الغرب عموما.
وتركيا يمكنها أداء هذا الدور بنجاح خاصة أن لديها العديد من الاتفاقيات التجارية مع مختلف دول الاتحاد الأوروبي بما يتيح لها فرصة تصدير المنتجات الصينية التي سيتم تصنيعها على أراضيها بسهولة ويسر.
وهي خطوة -إن حدثت- ستكون تركيا قد تمكنت من تحقيق هدفين أولهما أن تصبح ممرا للتجارة بين دول آسيا وأوروبا، وثانيهما الانضمام إلى مبادرة “الحزام والطريق” عبر الصين الشريك الأكبر فيها، بضم ممر طريق التنمية الذي تنشئه حاليا مع العراق إلى “الحزام والطريق” في مرحلة من مراحله.
وبهذا تستطيع أنقرة توظيف موقعها الجغرافي التوظيف الأمثل سياسيا واقتصاديا، بما يمنحها القدرة على التأثير بصورة أكبر في مجريات الأمور الإقليمية والدولية، بما يخدم مصالحها.
أنقرة، رغم الأهمية الاقتصادية الفائقة والمكاسب الكثيرة التي يمكنها جنيها من الانضمام إلى مجموعة البريكس، لديها أهداف سياسية واستراتيجية أخرى تسعى لتحقيقها، قد تفوق في أهميتها المكاسب الاقتصادية المنتظرة، وهو ما دفعها إلى طلب وساطة روسيا وإيران لتعضيد موقفها وقبول عضويتها، بالرغم من إعلان المجموعة صراحة أنه لا نية لديها حاليا لزيادة عدد أعضائها.
يدرك الرئيس أردوغان جيدا أهمية عامل الوقت بالنسبة لمسألة انضمام بلاده إلى البريكس، إذ لم يبق له في السلطة سوى أربع سنوات وفق الدستور الحالي للبلاد، مما يعني ضرورة البت في طلبه وهو على رأس السلطة، وإلا فإن احتمال خروج حزبه العدالة والتنمية من الحكم وتولي الشعب الجمهوري -وفق استطلاعات الرأي- سيعني ضياع الفرصة وعدم انضمام تركيا إلى البريكس في ظل اعتناق الشعب الجمهوري لفكرة الانتماء للغرب التي ورثها عن مصطفى كمال أتاتورك، ولا يزال مؤمنا بها، ومروجا لأوهامها.
ويهدف أردوغان من وراء إصراره على الانضمام إلى البريكس لتحقيق جملة من المكاسب لبلاده على المستوى السياسي والاستراتيجي، منها:
تعزيز دورها المؤثر على المستويين الإقليمي والعالمي، بما يفتح أمامها المجال رحبا لضمان مقعد دائم في مجلس الأمن حال تعديل ميثاق الأمم المتحدة الذي يطالب به كثير من دول العالم.
وجود البديل المناسب الذي يساعدها على الخروج من النفق المظلم الذي تقبع فيه منذ عام 1959 انتظارا لقبول عضويتها في الاتحاد الأوروبي، ورغم مرور كل هذه السنوات، وما قدمته من خدمات، وما أقدمت عليه من تنازلات فلا تزال تراوح مكانها، وتقف على الباب في حالة انتظار طال أمدها، وهنا يبدو البريكس ومجموعة شنغهاي البديلين المناسبين لها، خاصة أنهما بعيدتان عن التحالفات الأوروبية المعروفة.
استغلال موقعها الجيو سياسي، واستثماره في إيجاد فرص جديدة لتنسيق المواقف بينها وبين القوى العالمية الجديدة الصاعدة في القضايا المرتبطة بالمنظومة الأمنية، وتحقيق الاستقرار، والتصدي للتنظيمات الإرهابية التي تستخدم من قبل البعض لإثارة الفوضى، وزعزعة السلم الاجتماعي في المجتمعات، وتغيير خرائطها الجغرافية.
إيجاد آلية جديدة للتعاون الاقتصادي، والسياسي، والعسكري تمكنها من التصدي للضغوط الغربية عليها عموما، والأمريكية خاصة، فيما يرتبط بعلاقاتها العسكرية، والاقتصادية مع محيطها الجغرافي، لعدم انصياعها للأوامر الغربية في هذا المجال، واستخدام ملفها في حقوق الإنسان ذريعة لمعاقبتها، والتصدي لمصالحها الأمنية، والاستراتيجية، وعرقلة خططها التنموية، وتقييد انطلاقها كقوة صاعدة في عالم جديد متعدد الأقطاب.
الموافقة على قبول عضوية تركيا في مجموعة البريكس سيكون لها -دون شك- ثمن عليها دفعه قبل أن تسعى لتحقيق أهدافها المذكورة منها، فهل أردوغان مستعد للإقدام على هذه التضحيات، التي منها -على سبيل المثال لا الحصر- الانسحاب من حلف الناتو، وتحجيم علاقاته بالغرب في ظل اعتبار مؤسسي البريكس أنهم تحولوا من مجرد ائتلاف اقتصادي إلى مجموعة متعددة الحضارات تضم حضارات كل من أوراسيا، وأفريقيا، وأمريكا اللاتينية، وهي حضارات تختلف تماما في منطلقاتها مع منطلقات الحضارة الغربية، ومكوناتها الثقافية، والاقتصادية، والسياسية، والعسكرية.
فهل ستوافق أنقرة على التخلي عن دعمها للحضارة الغربية مقابل الانضمام إلى مجموعة البريكس تحقيقا لأهدافها وأحلامها التي طال انتظارها أم تظل حبيسة وهم الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، والاستمرار في عضوية الناتو، والاكتفاء بدور الشرطي المدافع عن القارة العجوز؟!