قصة سيدة ايرانية تبرع بتجارتها.. ملابس هذا المحلّ هديّةٌ لأطفال لبنان
لقد كان التشرّد وجعًا مشتركًا بين أطفال غزّة ولبنان، وطفولة السيّدة نرجس. وجعٌ لم يكن ليسكنَ إلا ببذل محلّها الخاص لبيع الملابس بأكمله.
كانت القناة السادسة الإيرانية تعرض صور قصف منازل اللبنانيين بشكلٍ متواصل، وصور انفجار الصواريخ التي كانت تستقرّ في قلب المدينة. شریط الأخبار العاجلة على القناة الإخبارية، بلونه الأحمر كان يكرّر خبرًا مريرًا “خلال الأيام الماضية، استشهد مئات الأطفال في لبنان… مئات الآلاف تشرّدوا جراء الغارات الجويّة الإسرائيليّة.
فجأةً سمعت السيدة نرجس صوت أحد الانفجارات من خلفيّة الشاشة، ممّا أعادها إلى الصفّ الابتدائي الرابع، حيث ذاقت مرارة التشرّد. ارتجف قلبها من الأعماق، مثل كل الفتيات الصغار في غزة ولبنان.
كانت في العاشرة، حين كانت الطائرات العراقية خلال الحرب المفروضة، تظهر بين الحين والآخر في سماء العاصمة لتنهال عليها بالقصف. كان الخوف من القصف، يدفعهم أحيانًا إلى الخروج باتجاه الغابات المجاورة، كلٌّ منهم حاملًا غطاءً يقيه البرد. لكنهم كانوا يرتعشون حتى الصباح، من شدّة البرد القارس في محافظة كردستان.
استمرّ القصف، واستشهد عددٌ من جيرانها. هاجرت عائلة السيدة نرجس إلى قرية أخرى. كان كلّ شيءٍ على ما يرام، وقد استضافهم أهالي القرية بكرمٍ ولطفٍ بالغين، حتى أنّ القنابل قليلًا ما كانت تزورهم هناك.. إلا أنهم كانوا نازحين شرّدتهم الحرب. لقد كان التشرّد وجعًا مشتركًا في أطفال غزة، لبنان وبين طفولتها. وجعٌ جعلها تبذل محلّها الخاص لبيع الملابس بأكمله.
وصلني أنّه من المقرّر أن توضّب بضاعة محلّ السيدة نرجس في صناديق وترسل إلى السيدات والأطفال المشرّدين في لبنان. حرّكتُ علاقاتي من أجل أن أتمكّن من الحصول على لقاءٍ معها. توافق، ثمّ أذهب للقاء المعلّمة المتقاعدة من إقليم كردستان، والتي تبلغ من العمر (47) عاماً، وترغب في أن يبقى اسمها مجهولًا. فلا تخبرني إلا باسمها الأوّل؛ سيّدة نرجس.
سندُ المحلّ “فعل الخير”!
قبل ثلاث سنوات، عندما أحيلت على التقاعد بعد سنواتٍ من الوقوف أمام السبورة، قررت استثمار مدّخراتها في مشروعٍ تجاريٍّ صغيرٍ من المنزل. مشروعٌ ارتبط منذ البداية بفعل الخير. قدّمت السيدة نرجس ثروتها لسيّدتين من أقاربها للبدء بمشروع عملٍ صغير. بدأتا العمل برأس مالٍ صغير ثمّ تحوّل تدريجيًّا إلى متجرٍ لبيع الملابس.
متجرٌ كان ربحه يعود إلى جيب البائع وجيب الزبون على حدٍّ سواء. لم يكن بيع الملابس يعود عليهنّ بالربح الكثير، فالزبائن الذين كان وضعهم المادي سيّئًا، كانوا يأخذون الملابس بالمجان أو بالتقسيط. وقد حدث مرارًا أن تدخل السيدة نرجس جلسات الجمعيات الخيريّة وهي تحمل بيديها بعض الملابس.
لم تكن بحاجةٍ إلى أرباح المحل، ليس لأنّ وضعهم المادّي كان جيدًا. لا! بل إنّهم كانوا متوسّطي الحال، وكانوا مكتفين بالمعاش التقاعدي كما هو. لم تكن تهتم بالنقود الورقيّة التي كانت تملأ دُرج المحل، وكانت تعتمد أكثر على عداد الله، وعلى ربحه المعنويّ، وهذا ما كانت عليه تجارتها.
تقول: “كان كل شيءٍ يسير على ما يرام، مثل سائر التجارات، كانت لدينا مشاكل ومتاعب، ولكننا كنا نكتفي بالربح القليل الذي يبقى لنا في نهاية كلّ شهر. ثمّ شيئًا فشيئًا، بدأ محلّنا يشتهر في المدينة. غير أنّ السيّدتين اللتين تعاملتُ معهما تبدّلت حياتهما إلى الأفضل فجأةً، ورزقتا أطفالًا بحمد الله ولم تعودا قادرتين على العمل. قمت بإدارة المحلّ بنفسي فترةً من الوقت، لكن هذه لم تكن نيّتي من وراء افتتاح المتجر، أردت أن يكون المحلّ وقفًا لفعل الخير، وليس مجرد متجر ملابس عاديّ!”
التجارة التي بذلت 80 مليونًا من رأسمالها في ليلةٍ واحدة!
كانت كثيرًا ما تتوسّل بصاحب الزمان (عج) أن يعقد عملها في النهاية، تمامًا كما في البداية، بفعل الخير. لم تكن قادرةً على إدارة المحلّ وحدها، فقد كان يزاحم مسؤولياتها المنزلية، وأوقاتها التي ينبغي أن تقضيها مع زوجها وأبنائها وأحفادها. فقرّرت إغلاق المحلّ والاكتفاء بالبيع المنزلي والإلكتروني كما في السابق.
أصبح الزبائن يعرفونها جيّدًا، وكانت النساء يقفن يوميًّا في صفٍّ طويلٍ في بيتها، لشراء الملابس. خلال تلك الفترة القصيرة، عاد عليها البيع بربحٍ بمقدار 13 مليونًا أو أكثر.
حين وصلها أمر الإمام الخامنئي بمساعدة لبنان، اعتذرت من الزبائن الذين كانوا في صفٍّ طويل، وتوقّفت عن تجارة الملابس، فهي لم تعد للبيع. الثروة التي جمعتها بعرق الجبين خلال السنوات الماضية، والتي تكبّدت من أجلها عناء القروض لكي تصل إلى هذا المقدار، أنفقتها في ليلةٍ واحدة.
تذكّرت تلك السنة التي عاشت فيها التشرّد في زمن الحرب المفروضة. وتذكرت ملابسها التي لم تكن تبدّلها إلا نادرًا، ثمّ رأت أطفال لبنان المشرّدين الذين يعيشون ظروفًا أقسى بكثير.
قامت نرجس ووضّبت ملابس الأطفال والنساء التي بلغت قيمتها 70 إلى 80 مليون تومان وقامت بتعبئتها في صناديق، لتكون سببًا في عودة بريق الفرح في عيون الصغار الذين شرّدتهم الحرب من منازلهم. وبذلك تحقّقت دعواتها. فلقد كتب لمتجرها أن تكون خاتمته سعيدة، خاتمةً امتدّت إلى أرض لبنان.
واليوم، وصلت الملابس من قلب كردستان إلى بيروت، وكلما مرّت في بال السيدة نرجس ذكريات طفولتها، أثلج قلبَها أنّها قدّمت شيئًا متواضعًا للأطفال المظلومين والمشرّدين في تلك الرقعة الجغرافية من العالم!
البذلُ في ذروة الحاجة!
منذ بداية طوفان الأقصى، اعتادت أن تخصّص مبالغ صغيرة لصندوق دعم المقاومة، وكما عبّرت بالقول، إنّ البركة تشمل مالها بهذا الفعل. لكن لم يخطر في بالها أن تبذل كلّ ثروتها بين ليلةٍ وضحاها. وحين أسألها عن الدافع وراء هذا التخلّي والإنفاق، تقدّم لي إجابةً مألوفةً: “إنه أمر القائد. لقد أمرَ القائد، ونحن نمتثل لأوامر قائدنا بما نستطيع إليه سبيلا، وبأشفار عيوننا.”
من الجدير القول، إنّ حكاية هذا البذل والعطاء تمتدّ إلى سنوات طفولتها، فرغبتها في فعل الخير إرث أبيها وتربيته لها. تروي لي عن أبيها، وعن الليالي التي كان يأتي بالفاكهة فيوزّعها على الجيران قبل دخوله البيت، ثمّ يقطّع ما تبقى إلى شرائح يقسّمها بين أبنائه. “حين كنا نجتمع في الليالي في الحديقة، كانت أمي تحضر بطيخةً وتعطي السكين لأبي ليقسمها فيما بيننا. لكن أبي الحبيب كان يقسم البطيخة نصفين، يعطينا النصف لنأخذه إلى بيت جيراننا المحتاجين، ثمّ يعطينا حصّتنا من النصف الآخر.”
السيدة نرجس من ذاك الصنف، الذي يبذل من ماله بينما هو في أمس الحاجة له. من الأشخاص الذين يتمتعون بإيمانٍ قلبيّ، فكلما كانوا أكثر عطاءً، أكرمهم الله أضعاف أضعاف ما يعطون. حياتها عادية، لكنّ بناتها تزوّجن منذ مدةٍ قصيرة، وأسّسنَ لحياةٍ مشتركةٍ، وكما معظم الشباب والشابات، لا تخلو حياتهن من المشكلات الاقتصادية. خصوصًا أنّ إحدى بناتها تعاني من مشكلةٍ صحيةٍ صعبة وتحتاج إلى العلاج بشكلٍ دوريّ.
تساعد نرجس بناتها على بالمقدار الواجب، لكنها لا تستطيع أن تغضّ الطرف عن الفتيات الجريحات اللواتي تهدد صواريخ العدوّ حياتهنّ. وحين قلت لها إنكِ أكثر حاجةً لهذا المال من أيّ شخصٍ آخر، فلمَ تقدّمينه بهذا الشكل؟ ذكّرتني بالحكاية المعروفة، حكاية ليالي الإفطار الثلاث في بيت أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، والتي كانت من حصة الفقراء.
إنها على حقّ. فما الذي نتوقّعه ممّن كانت قدوته الحقيقيّة أسرة أمير المؤمنين عليه السلام، وقلبه معلّقًا بحبّ آل ذاك البيت!