تأسست مجموعة بريكس العام 2008، من أربع دول هي: الصين والهند وروسيا والبرازيل، ثم انضمت إليها جنوب إفريقيا في العام التالي، وظلت هكذا حتى العام الماضي، إلا أن انضمام أربع دول أخرى العام الماضي، وأسبابا أخرى دفعا دولاً عديدة أخرى لطلب الانضمام للمجموعة التي باتت قوة اقتصادية دولية، إن لم تعتبر ندا أو موازيا لمجموعة السبع الكبار، فهي تنافسها، وتعتبر على الأقل دون أي مبالغة التجمع الاقتصادي الثاني الأهم على الصعيد العالمي.
والحقيقة التي لا يمكن إغفالها، مهما حاول البعض فصل الاقتصاد عن السياسة، فلا يمكنه في نهاية المطاف أن ينجح تماما، خاصة أن دول بريكس المؤسسة، والمنضمة منذ عام، قد دخلت في خصومة متزايدة مع زعيم النظام العالمي الحالي، أي الولايات المتحدة، وقد تعددت أو تنوعت تلك الخصومة، فمنها ما هو اقتصادي، ومنها ما هو سياسي، ومنها ما هو عسكري، فالخصومة بين أميركا وروسيا منذ أقل قليلا من عامين، وصلت إلى تخوم الحرب المتوارية، أي من وراء الكواليس، حيث تكمن أميركا وراء أوكرانيا في مواجهة روسيا عسكريا، فيما أميركا تخاصم الصين اقتصاديا، وتضفي على تلك الخصومة توترات سياسية، من خلال ملف تايوان، أما إيران المنضمة إلى بريكس مع السعودية والإمارات ومصر وإثيوبيا حديثا، فإن خصومتها مع أميركا، ينقصها فتيل الحرب، لتنتقل من فرض العقوبات والتوتر حول البرنامج النووي منذ سنوات، إلى وجود كلا البلدين وراء طرفي الحرب المشتعلة في الشرق الأوسط منذ أكثر من عام.
أي أن أعضاء بريكس باتوا مع مرور الوقت، خاصة في السنوات الأخيرة، على خصومة سياسية متصاعدة مع الولايات المتحدة، لذا فإن ما ينقص هذا التكتل هو أن يتحول إلى حلف عسكري أو سياسي، على شاكلة حلف وارسو خلال الحرب الباردة الذي كان الند لحلف شمال الأطلسي، أو الناتو الذي ما زال موجودا، أو يتحول إلى تحالف سياسي يشبه منظومة الدول الشيوعية، ليعود العالم إلى ثنائية القطبية، قبل أن ينهار جدار برلين، وقبل أن يتفكك الاتحاد السوفياتي والاتحاد اليوغوسلافي وتعود تشيكوسلوفاكيا للانقسام إلى دولتين، وكل تلك الأحداث التي وقعت قبل ثلاثة عقود ونصف العقد من اليوم، لكن التاريخ لا يتكرر وإن كان يعيد إنتاج أشكال متشابهة، فبريكس هو تكتل اقتصادي بالأساس وما زال كذلك، وهو يجمع دولا غير موحدة لا في نظامها السياسي ولا العقائدي ولا الاقتصادي حتى، لكن الاقتصاد بات أكثر تأثيرا عما كان عليه الحال حتى خلال الحرب الباردة، لذا فإن تكتل بريكس يحقق، على أقل تقدير لأعضائه وربما للعالم كله "تحررا" ما من السطوة والسيطرة والهيمنة الاقتصادية الأميركية على العالم.
وبريكس اليوم بعضوية تسع دول يستحوذ على ثلث اقتصاد العالم، والناتج المحلي لبريكس أكبر من الناتج المحلي لمجموعة الدول السبع الكبار، وكذلك الاتحاد الأوروبي، كيف لا ومن بين أعضائه الصين والهند، ثم دول النفط الإمارات وإيران وروسيا، كما أن روسيا والصين دولتان عضوان من أصل خمسة أعضاء في مجلس الأمن الدولي، وتعتبران من أقوى دول العالم عسكريا بما تمتلكانه من ترسانة نووية وجيوش قوية جدا، أما عدد سكان دول المجموعة، فيشكل 40% من مجموع عدد سكان العالم، كل هذا يعني أن بريكس تعتبر اليوم واحدة من أهم التكتلات الدولية، بل هي أهم تكتل في العالم خارج إطار السيطرة الأميركية، هذا إذا لم يكن أصلا على طريق تحديها، وعلى طريق إسقاط نظامها العالمي أحادي القطب الذي اعتلت عرشه منذ انتهاء الحرب الباردة مطلع تسعينيات القرن الماضي، وبريكس أعلنت بالمناسبة في أول قمة لها عقدت في 2009 عن تأسيس نظام عالمي ثنائي القطبية.
كذلك هناك أمر مهم يضاعف من أهمية بريكس، وهو أن جاذبيتها ازدادت خلال الأعوام الأخيرة، فبعد أن ضمت لعضويتها خمسة أعضاء جدد أضيفوا لمؤسسيها الخمس، مطلع العام 2024 الحالي، هناك 30 دولة أخرى ترغب حاليا في الانضمام لها، كما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال جلسة افتتاح القمة السادسة عشرة، التي حضرها 24 رئيس دولة من أصل 32 دولة مشاركة في القمة التي انعقدت يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين في مدينة قازان، عاصمة جمهورية تتارستان الروسية، ولعقد القمة في هذه المدينة دلالات بالغة، فالقمة إضافة إلى كونها تنعقد برئاسة بوتين، وعلى أرض روسيا، بما يبدد كل محاولات أميركا لفرض الحصار الدولي على روسيا بعد اندلاع حربها مع أوكرانيا، فهي تعني أيضا حرص روسيا الأكيد على احترام المسلمين الذين يشكلون نحو مليار ونصف إنسان، ولديهم عشرات الدول، ويتعرضون للاستخفاف الأميركي من خلال دعمه لإسرائيل، ومن خلال حروبه السابقة، إن كان تلك التي جرت مع العراق وأفغانستان، أو بعدائه لإيران.
ولقد ظهر تحدي المجموعة للقطبية الدولية الأحادية الأميركية، من خلال الشعار الذي رفعته هذه القمة، وهو "تعزيز التعددية من أجل التنمية والأمن العالميين العادلين"، فقد كان الاجتماع بحد ذاته تأكيدا على فشل أميركا التام في عزل روسيا دوليا، ومجرد بقاء بريكس، حيث يواظب على الاجتماع السنوي، كذلك لأنه في حالة صعود متواصل، بإبداء دول متزايدة العدد في الانضمام إليه، يعني أنه سينجح في النهاية في تقويض النظام العالمي أحادي القطب الأميركي، ورغم أنه ما زال يواصل تحقيق ذلك عبر الطريق الاقتصادي، إلا أن نجاحه في مسعاه بتبني الدول الأعضاء في بريكس لبديل عن الدولار الأميركي يعتبر أول الطريق على الخروج الحقيقي على النظام العالمي الأميركي.
أما نقطة ضعف بريكس الأساسية فما زالت مرتبطة بعدم التوافق بين الصين والهند، وهما عملاقان اقتصاديان، وثقلان بشريان على المستوى الكوني، كذلك فإن انضمام كل من إيران والسعودية، على ما هو معروف بينهما من تنافس سياسي إقليمي يعتبر تحديا، ومشكلة أمام انطلاق بريكس على طريق التحدي الاقتصادي والسياسي للهيمنة الأميركية الاقتصادية والسياسية على العالم، ويحد كثيرا من الحلم الروسي بقيادة بريكس على هذا الطريق، أي طريق إعلان نظام عالمي جديد، ولعل هذا يتضح من خلال محاولة روسيا منذ سنوات إقناع دول بريكس اعتماد تبادل تجاري عابر للحدود لا يعتمد لا على الدولار ولا على اليورو، وربما كان حرص الهند المستمر على العلاقة السياسية والاقتصادية الجيدة مع الغرب واضحا، فيما كان اقتصار حضور السعودية قمة قازان، على وزير خارجيتها مثيرا للشك حول عضويتها التي أعلن عنها في القمة الماضية، بينما أكدت روسيا قبول عضوية السعودية بداية العام المقبل، فيما كانت مشاركة مصر التي حضرت بالرئيس السيسي، رغم حضور إثيوبيا، مثيرة ولافتة، هذا ويبدو أن دخول إيران القوي، كذلك التقارب المتزايد الاقتصادي والعسكري والسياسي بين روسيا وإيران، قد كبح من اندفاعة السعودية نحو المجموعة التي تقودها روسيا مع الصين على نحو واضح وأكيد وفعال، وبشكل متزايد، على طريق الانعتاق من النظام العالمي الأميركي.
لكن مع ذلك فإن السعودية بثقلها الاقتصادي ومكانتها الإقليمية وفي العالم الإسلامي، باتت في حكم العضو المؤكد لبريكس بما يزيد بريكس، ومن يدري ربما تكون عضويتها في بريكس مفتاحا لتطبيع أكثر في علاقتها مع إيران، وهما عضوتان أصلا في المؤتمر الإسلامي، تتجاوران وتظهران قدرا من النضج السياسي والحرص على عدم تأجيج الخلاف بينهما القائم منذ سنوات طويلة، هذا وقد طالب البيان الختامي لقمة بريكس بوقف فوري لإطلاق النار في غزة، وأكد على تنفيذ الاتفاقية الاستثمارية، وعلى ضرورة تحقيق الاستقرار في السودان وأوكرانيا وفلسطين ولبنان، والحد من سباق التسلح، ودعم تعدد الأقطاب، في سعي دؤوب ومتواصل على طريق تحقيق إعلان القمة الأولى من أجل نظام ثنائي القطبية أو متعدد الأقطاب، كنظام بديل عن النظام العالمي الأميركي أحادي القطب الحالي.