بيئة المقاومة.. الامتحان الأصعب وسر البيئة الصامدة
منذ تفجيرات أجهزة البايجر والووكي توكي، واغتيال القادة الشهداء وعلى رأسهم سيد شهداء محور المقاومة سماحة السيد حسن نصر الله (رضوان الله تعالى عليه)، وما تلى ذلك من تحول جبهة لبنان من جبهة اسناد إلى جبهة رئيسية عند العدو الصهيوني، ورؤية المجازر والأعداد الهائلة للشهداء، وعملية تدمير المباني الممنهج والمصمم لأجل ممارسة المزيد من الحرب النفسية على بيئة المقاومة. وهذه البيئة تعيش أشد الظروف المأساوية وأحلكها على الاطلاق، والتي قد تكون الأصعب منذ نشوء هذا الكيان الصهيوني في منطقتنا.
هذه البيئة المضحيّة أمام هول الإجرام الصهيوني طوال عقود من الزمن ما برحت يوما عن خياراتها الداعمة للقضية الفلسطينية. وربما يكون السبب الأهم لهذه التضحيات، والسر الأعظم من ورائها، أن المخزون الثقافي والديني والوجدان العاطفي لاسيما في الدائرة اللصيقة والأقرب لحزب الله _ وأقصد هنا على المستوى الشيعي خصوصا في لبنان _ وما تعني قضية الشهادة والإيثار ورفض الضيم والظلم، كلها شكلت العناصر الحاضرة دائما في هذا الوجدان والمستلهمة من التاريخ الاسلامي العابق بتجربة الإمام الحسين عليه السلام وكربلاء والأئمة عموما، ما مكنها من تجاوز كل الصعوبات، طبعا، دون ان يشكل ذلك أي انتقاص لسائر الدوائر الأخرى من كافة الطوائف لبيئة المقاومة، والتي اختبرت تجربة حزب الله وبشكل متفاوت على مدى يزيد عن اربعين عاما.
لذلك كانت هذه البيئة على استعداد دائم لتقديم المزيد والمزيد من التضحيات والأثمان، التي تكل الالسن عن وصفها. حتى وصل الامر ببعض العائلات ان تقدم اربعة وخمسة من ابنائها على قربان الشهادة وهي محتسبة ذلك عند الله عز وجل، وصبر زينب عليها السلام.
نبأ الاستشهاد.. ما أقسى الواقعة!
كان إعلان الصهاينة عن نجاح عملية اغتيال الأمين العام لحزب الله خبرا صاعقا غير مصدّق من كل بيئة هذا الحزب، لا بل من كل محبي سماحته في لبنان والعالم. وربما كانت هي اللحظة الأصعب، لا بل هي يقينا، حين تلقت هذه البيئة نبأ استشهاده السامي بعد صدور بيان النعي الرسمي وتأكيد الواقعة.
لم تصدق جلّ بيئة حزب الله بدايةً خبر الاستشهاد، ولا أبالغ بالقول ربما لا يزال من في البيئة لا يصدق هذا الأمر إلى يومنا هذا، ونحن شارفنا على الأربعين يوما منذ نبأ الاغتيال. هذا البعض وإن كان ليس بالرقم المذكور، وهو عدد ماثل إلى التناقص والتلاشي، إلا أن أغلب البيئة ما زالت تكافح وتعاني من المشاعر المتناقضة ما بين الرغبة في عدم الخروج من الحلم الجميل وافتراض أن عباءة سماحته ما زالت تلقي بظلالها ودفئها، وبين الاعتراف بالواقع الجديد وتقبله، واعتباره نوعا جديدا من أنواع التحدي والامتحان الإلهي. لا ضير، ستأخذ الأمور بعضا من الوقت للتلتئم الجراح وتتعافى بشكل نهائي.
نعم السيد مات.. عبارة ما أقسى وقعها! نحب أن لا نسمعها، وان لا نصدقها، ولكن لنا في قضاء الله وحكمته تسليما، ويقينا أن ما جرى هو في عين الله ولطفه وعنايته. وأن الله يمتحننا ويجربنا، فهل ننجح في الاختبار؟ هنا يكمن التحدي الأصعب..
الامتحان الالهي .. تربية وتدريب
ماذا عن الامتحان الالهي؟ ولماذا يريد الله امتحاننا؟ قال تعالى: “أَحَسِبَ ٱلنَّاسُ أَن يُتۡرَكُوٓاْ أَن يَقُولُوٓاْ ءَامَنَّا وَهُمۡ لَا يُفۡتَنُونَ” . إذا الاختبار والامتحان ليميز الله الصادقين في دعواهم الإيمان عن الكاذبين وبشكل عملي.
فلسفة الامتحان الإلهي هي في تحمل المصائب من أجل الوصول إلى الهدف. فالاختبار الالهي ليس على طريقة الامتحان المدرسي أو الجامعي من يملك أو يحفظ المعلومة ينجح، ولا هو لأجل أن يتعرف الله على قدراتتا أو لنتعرف نحن على انفسنا (وإن كان ذلك يشكل جزءاً من هدف الاختبار)، بل الهدف الأسمى من ذاك الاختبار هو لأجل تربيتنا وتدريبنا. والأهم من خوض الاختبار _ والذي هو سنة إلهية فرضها الله على عباده _ هو في اجتيازه بنجاح لنصل الى كمال الدين.
قال تعالى: “أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ” . اذا من شروط كمال الدين الجهاد في سبيل الله وتولي رسوله (ص) والمؤمنين دون غيرهم.
استفادة من معركة “حنين” فجر الإسلام
عندما قرر النبي محمد بن عبد الله (ص) وضع حد لقبيلتي هوازن وثقيف في مدينة الطائف بعد أن قلّبوا عليه الأمور وأعلنوا الحرب على المسلمين. توجّه في السنة الثامنة للهجرة بعد فتح مكة بجيش قوامه ١٢ ألفا من المسلمين، كان بينهم ٢٠٠٠ ممن دخلوا الإسلام حديثا.
وعندما وصل الجيش الى وادي حنين كان العدو قد كمن لهم وأغار عليهم من كل حدب وصوب، فانهار جيش المسلمين، وفزعوا وولّوا مدبرين، ولم يثبت منهم على أقصى ما ورد في الروايات التاريخية ما دون المئة رجل. قال تعالى: “لَقَدْ نَصَرَكُمُ ٱللَّهُ فِى مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍۢ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْـًٔا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ ٱلْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ” .
ما الذي أصاب المسلمين في حنين؟ لقد ظنّوا أن كثرتهم هي سبب غلبتهم، فغرّتهم القوّة، وتعلّقوا بالأسباب المادية، ونسوا أن السبب الحقيقي للنصر والذي يقف من وراء هذه الأسباب المادية هو الله عزّ وجلّ. عندها وكلهم الله إلى أنفسهم فزلزلوا وأصابهم الرعب وضاقت بهم الأرض وحوصروا وهزموا.
لقد امتحن الله قلوبهم في لحظة الذروة واغترارهم بأسباب القوّة المادية. حينها وبعد أن التفتوا إلى أنفسهم وإلى نداء النبي (ص) أن عودوا واثبتوا، “أيها الناس هلمّوا إليّ، انا رسول الله محمد بن عبد الله”، أنزل الله عليهم سكينته وأيدهم بجنود لم يروها، “ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ” .
مسار الحق صعود وهبوط
كانت الأيام الأولى التي تلت عملية الاغتيال الآثمة بالنسبة لبيئة المقاومة شبيهة بيوم حنين، لا نقول ذلك انتقاصا من البيئة التي قدمت وما زالت تقدم كل التضحيات، فهم أشرف الناس دون منازع. غير أن الصدمة المهولة واللا متوقعة ابدا، واليقين بالنصر الموعود بالصلاة في القدس معا خلف سيد شهداء محور المقاومة، هذا الشعور بالطمأنينة والسكينة الذي كان سماحته قادرا ان يعطيه في لحظة ما تبدد من أمام ناظر هذه البيئة.
ما الذي حدث!؟ ونحن من مدرسة تؤمن إن كان محمد قد قتل فرب محمد لا يموت. وتصدّق قول الإمام الحسين (عليه السلام): “هوّن ما نزل بي أنه في عين الله”، وشعار الإمام الخميني (قدس سره): “الله في الساحة”، وعبارة السيد عباس الموسوي (رضوان الله تعالى عليه): “اقتلونا فإن شعبنا سيعي أكثر فأكثر”. فكيف لهذه البيئة أن تنهزم وتيأس؟!
لقد أدركنا أننا كنا مخطئين عندما ظننا أن صراع الحق والباطل لا يصاب بانتكاسات، أو أنه لن يكون لهذا المسار انتكاسات قد تحصل في المستقبل للسالكين. نعم صحيح، السنن الالهية هي أن تكون الغلبة لأهل الحق على الباطل، وأن يقوى هذا الحق يوما بعد يوم حتى يعمّ العدل على يدي الامام الحجة المنتظر (عجّل الله فرجه الشريف).
ولكن يجب الالتفات أن مسار الحق فيه صعود وهبوط، وقد يتراجع الحق وحتى قد ينهزم لفترة من الزمن على يد الباطل، ما يؤدي الى يقظة أهل الحق وعودتهم إلى رشدهم. ولكن يبقى المسار العام مسارا تصاعديا. والأهم ان لا نبني أحكامنا على التبدّل المؤقت في المسارات، فأحيانا قد يكون الهبوط من لوازم التقدّم والتطوّر، حتى في الأمور التي مردّها الأسباب المادّية. فكم من الاختراعات والاكتشافات واجهت الكثير من العقبات وكانت هي السبب في تطورها وانطلاقها بعد مواجهتها والتغلب عليها.
فأنزل الله سكينته
ينبغي لنا أن نعي جيدا، أننا اليوم أمام تحدّ يرقى الى الوجود، علينا أن نراجع أنفسنا وعلاقتنا مع خالقنا، بادراكنا أن الأسباب الحقيقية الكامنة وراء النصر، ليست بالقوى الماديّة ولا بالسلاح ونوعيته، كثرته أو قلّته. نعم لا يجوز لنا تجاهل هذه الأسباب والتي تعدّ ضمن دائرة التكليف الملقاة على عاتقنا من باب إعداد ما نستطيع إليه من قوة نحارب بها عدو الله. غير أنه لا يجوز أبدا التعامي عن السبب الحقيقي من وراء هذه الأسباب الظاهرية، هذا السبب الذي يجب حضوره الدائم في قلوبنا، والذي هو الله عزّ وجلّ. يجب أن تكون ثقتنا الدائمة والمطلقة فيه وبأنّ النصر من عنده يمنّ به على من يشاء.
وعندما نصبح كذلك، سنبصر بعين يقين سيدتنا زينب (عليها السلام)، الباصرة الى ملكوت الملك وإلى حقيقة الأشياء، ولن نرى “إلا جميلا” رغم كل صنع الأعداء. ولن نقول أن قلوبنا غلف، أو أننا نؤمن ببعض الكتاب ونكفر ببعض، ولا أننا من الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة، بل نحن قوم منّ الله عليهم ببصيرة الإيمان وتشبّعنا درب الجهاد والتضحيات نقدّم كلّ نفيس، ونحتسبه عند الله ليرضى. لنا قلوب حيدرية، وعزم حسيني، ويقين زينبي.
وإذا رأى الله صدقنا واخلاصنا فسينزل سكينته علينا، وسيؤيدنا بجنود سنراها ببأس مجاهدينا وثباتهم وبطولاتهم وروحياتهم العالية في الميدان. وإن كان سيدنا قد قتل فإن ربنا وربه موجود في الساحات، يسدد خطى مجاهدينا وينزل بواستطهم بأسه الشديد على عدوّنا، وسيفتح الله لنا بإذنه وعلى يديهم معركة “أولي البأس”.
وكما كان يقول سيدنا رضوان الله عليه: إن النصر آت آت آت..
“إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ”.