د. سمير صالحة - أساس ميديا
عانت العلاقات التركية الأميركية خلال ولاية دونالد ترامب الأولى تحدّيات كبيرة، لكنّها تميّزت بحالة من البراغماتية والعملانيّة في التعامل مع الكثير من القضايا. هذا إلى جانب وجود حوار مباشر بين الرئيسين التركي والأميركي نجح في تحصينها خلافاً للعلاقة بين رجب طيب إردوغان وجو بايدن… ماذا عن الولاية الثانية؟ وهل هناك “فريق صليبيّ” تخشى القيادة التركية أن “يهجم” على المنطقة؟
ترصد أنقرة مثل غيرها من العواصم الفاعلة استعدادات الإدارة الأميركية الجديدة مع دونالد ترامب لتسلّم السلطة اعتبارا من 20 كانون الثاني المقبل. ورحّب الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بفوز “صديقي ترامب” في الانتخابات الأميركية، فالعلاقات الشخصية بين الرجلين جيّدة، حتى لو تسبّب مكتوب الأخير لنظيره التركي في عام 2019، بخصوص الوضع في شمال سوريا، بأزمة سياسية انتهت كما قيل في تركيا بتمزيق الرسالة ورميها في سلّة المهملات. ومع ذلك فما ينتظر فرق العمل السياسي والعسكري والاقتصادي التركية والأميركية هو الكثير من الجهد والصبر لتبديد العشرات من ملفّات التباعد الثنائي والإقليمي.
القضايا الجديدة “على الخطّ”
إلى جانب القضايا الخلافية المزمنة والشائكة ذات الطابع الإقليمي مثل قبرص واليونان وشرق المتوسط وإيجه وحوض البحر الأسود… دخل على الخطّ في السنوات الأخيرة عامل تطوّرات الوضع في الشرق الأوسط: من سياسة إسرائيل الإقليمية والتقارب التركي الإيراني والتركي الروسي، إلى التحوّل في سياسات تركيا الاقتصادية نحو الشرق، وصولاً إلى خلافات التسليح والتسلّح والصعود العسكري التركي.
لن تلتقي حسابات الطرفين بمثل هذه السهولة والبساطة على الرغم من سهولة الاتّصال والتواصل بين إردوغان وترامب كما تعوّدا سابقاً لمناقشة الملفّات الساخنة والعاجلة لأنّ منظومة العلاقات التي بُنيت في الأعوام الأخيرة منذ مغادرة ترامب للبيت الأبيض حتى عودته مجدّداً إليه تحول دون ذلك.
لن يكون السبب فريق العمل الرئاسي الذي اختاره ترامب فقط، بل الضغوطات الإسرائيلية وربّما الأوروبية التي ستحول دون ذلك. فقد قال وزير الخارجية التركي هاكان فيدان إنّ أنقرة ستظلّ على مواقفها الثابتة والمعروفة، وإنّه لن تكون هناك أيّ تحوّلات جذرية في طريقة تعاملها مع الملفّات التي تعني مصالحها وأمنها القومي.
لم يتأخّر ترامب في إعلان ما عنده وهو يستعرض أسماء أقرب أعوانه في البيت الأبيض والوزارات، منها مستشار الأمن القومي ووزير الخارجية ووزير الدفاع. وهي في غالبيّتها أسماء لا تعجب أنقرة. فهل يكفيها اختيار صديقها إيلون ماسك ليكون الوسيط الأميركي المداوم على خطّ أنقرة – واشنطن لموازنة فريق ترامب الرئاسي المحسوب على تل أبيب؟
ما الذي يعنيه بالنسبة لتركيا رجوع ترامب إلى البيت الأبيض؟ وكيف ستستعدّ للتعامل مع فريقه الرئاسي والحكومي الذي خيّب آمالها كما هو واقع الحال بالنسبة للعديد من العواصم في الشرق والغرب باستثناء إسرائيل؟ وهل تكفيها صداقة الرئيسين وقدرتهما على التواصل السريع عند اللزوم دون بروتوكولات وحواجز دبلوماسية لبحث أيّ موقف طارىء أو تبديد أيّ توتّر محتمل؟
مشية “البطّة العرجاء” بين البلدين
التنبّؤ هو عملية تقدير أو توقّع حدث مستقبلي أو نتيجة محتملة بناءً على تحليل المعلومات والبيانات المتوافرة بهدف الاستعداد للمستقبل. من أجل ذلك ينبغي تحديد المسألة جيّداً وعدم تجاهل الحالات المماثلة، والرجوع للأرشيف ورصد الأجواء والظروف المواكبة المؤثّرة على النتائج، وعدم تجاهل التحليل العلمي المنطقي واختيار التوصيات بدقّة.
لا حاجة إلى التبصير أو الضرب بالرمل ورمي الأصفاد أرضاً في محاولة للتنبّؤ بمسار ومستقبل العلاقات التركية الأميركية. المكتوب يقرأ من عنوانه، دون اجتراح المعجزات ولا تكويع أو التفاف أو تحديث في المواقف بين البلدين. بقدر ما يستعدّ فريق ترامب للتسليم والتسلّم في البيت الأبيض بعد شهرين، تستعدّ العديد من العواصم وبينها أنقرة لحقبة جديدة من العلاقات. فعلى الرغم من عودة ترامب “صديقي العزيز” إلى البيت الأبيض على حصان الأكثرية المطلقة، يتقدّم السيناريو التشاؤميّ على الكثير من الاحتمالات باتّجاه أن تواصل العلاقات التركية الأميركية سيرها على شاكلة البطّة العرجاء. وهو مصطلح بريطاني شائع أميركياً في توصيف العلاقات الصعبة والمهدّدة بالتراجع دون أن تسقط.
يدور الحديث عن بداية جديدة في مسار العلاقات التركية الأميركية. لكنّها ليست المرّة الأولى التي تطلق فيها مثل هذه التصريحات والمواقف الانفتاحية. العقبة هي في التفاهم على خارطة طريق تبدّد الخلافات أو تساهم في تراجعها، وهو ما لم يتمّ حتى اليوم.
ينتظر إردوغان من نظيره الأميركي ترامب الالتزام بتنفيذ الوعود التي قطعها في أكثر من ملفّ خلافيّ يباعد بين البلدين في سوريا والحرب على الإرهاب ورفع العقوبات وإنهاء الانحياز الواضح إلى جانب إسرائيل واليونان وقبرص اليونانية.
“الكردستانيّ” وغولن والعقوبات
في المقابل تريد إدارة ترامب أن ترى تراجعاً ملموساً في سياسة تركيا الانفتاحية على خصومها مثل إيران وروسيا والصين، وتطلب الإصغاء إلى ما تقوله وتريده في ملفّات الطاقة والممرّات التجارية العالمية.
لذلك حسابات أنقرة وواشنطن السياسية والأمنيّة معقّدة على الرغم من وجودهما تحت مظلّة دفاعية واحدة في الحلف الأطلسي، وعلى الرغم من أرقام التبادل التجاري التي ارتفعت من 20 مليار دولار في عام 2019 إلى 32 مليار دولار في العام المنصرم، مع رغبة ثنائية في إيصال الأرقام إلى 100 مليار دولار خلال العقد المقبل.
كما تأمل أنقرة تعزيز التعاون مع إدارة ترامب في ملفّات حسّاسة، أبرزها:
محاربة الإرهاب ودعم الولايات المتحدة لمجموعات “قوات سوريا الديمقراطية” التي تعتبرها تركيا تهديداً لأمنها القومي لالتصاقها بعناصر “حزب العمّال الكردستاني”.
ثمّ ملفّ العلاقة مع منظمة فتح الله غولن التي تصنّفها تركيا منظمة إرهابية وتحمّلها مسؤولية المحاولة الانقلابية في عام 2016، والتي توفّر أميركا الحماية والحصانة للعشرات من قياداتها وكوادرها.
كذلك موضوع العقوبات الأميركية المفروضة على أنقرة بسبب شراء منظومة الدفاع الصاروخي الروسية “إس-400″، بالإضافة إلى موضوع استبعاد تركيا من برنامج المقاتلة إف – 35.
تحسين علاقات تركيا مع إسرائيل
في المقابل، ومع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، قد تسعى واشنطن إلى تعزيز التحالفات الإقليمية، وهو ما قد يدفعها للضغط على تركيا لتحسين علاقاتها مع إسرائيل. هذا إلى جانب مراجعة علاقاتها الانفتاحية على موسكو وطهران وبكين. لكنّ المكتوب يقرأ من العنوان. اختيارات ترامب لفريق عمله تعكس شكل السياسة المرتقبة في السنوات الأربع المقبلة، إذا لم يتدارك الموقف ويدخل تعديلات سريعة على الأسماء والاختيارات.
ما قد يقدّمه الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب في المستقبل قد يكون أكثر سوءاً ممّا شهدته ولايته الأولى، خاصة في ما يتعلّق بترشيحه شخصيات تدين بالولاء له والتأييد الكامل لإسرائيل، إضافةً إلى دعم بعضهم الصريح لما يُعرف بـ تحريك “ورقة الأكراد في الإقليم”، وبينهم شخصيات مثل ماركو روبيو وأليس ستفينك وبيتر هيغسيت وتولسي غابارد ومايكل والتز.
المقايضات محتملة والأبواب مشرّعة، لكنّ اللوبيات والعامل الإسرائيلي الضاغط في أميركا هما العقبة. يريد ترامب حسم الملفّات مع طهران وموسكو، لكنّ في صدارة أولويّاته مواجهة مجموعة “بريكس” التي تكبر وتتفرّع وتضمّ روسيا والصين والهند وإيران وغيرها من العواصم الإفريقية والآسيوية.
3 لاءات صينيّة مستمرّة
نصائح الرئيس الصيني شي جين بينغ لنظيره الأميركي بايدن على هامش قمّة “أيباك” في ليما، تحت عنوان اللاءات الثلاث، ستظلّ صالحة لترامب أيضاً:
لا تستبعدوا تكرار “فخّ توكيديدس” بأن يقود الخوف والتوتّر إلى انفجار عسكري بين الصين وأميركا.
لا تقحمونا في حرب باردة جديدة نحن بغنى عنها.
لا تحاولوا محاصرة الصين بأيّ شكل من الأشكال لأنّنا تجاوزنا هذا السيناريو منذ سنوات. وقد يكون سبباً إضافياً آخر لإقناع ترامب بعدم خسارة الشركاء والحلفاء، وبينهم تركيا، لمصلحة روسيا والصين.
ترامب من أنصار العودة إلى الأحادية القطبية والتزام الشركاء والحلفاء بالقرار الأميركي. في المقابل أطلق إردوغان في السنوات الأخيرة خطوات انفتاح وتقارب استراتيجي باتّجاه إفريقيا والشرق الآسيوي في إطار التعدّدية القطبية. فكيف ستسوّى الأمور؟
تركيا تريد سوريا… وستقدّم الكثير من الهدايا
إذا أعطى ترامب أنقرة ما تريده في الملفّ السوري، فإردوغان لن يتردّد في تقديم الكثير من الهدايا السياسية والاقتصادية ذات الطابع الإقليمي له:
أولى الهدايا قد تكون الطاولة الرباعية الجديدة في سوريا بحلّة جديدة أميركية روسية تركية عربية مثلاً.
وبعدها من خلال عودة الوساطة التركية على خطّ موسكو – كييف في ملفّ القرم.
المهمّ بالنسبة لأنقرة هو أن لا تكرّر واشنطن الخطأ الذي ارتكبته في العراق بانسحابها لمصلحة إيران قبل عقد ونصف. وإذا قرّرت تكرار ذلك لمصلحة إسرائيل في سوريا هذه المرّة، فهذا يعني أنّ منسوب التوتّر التركي الأميركي سيذهب باتّجاه آخر، ويكون التوتّر التركي الإسرائيلي المتزايد سبباً إضافياً فيه.
المفاجأة جاءت مرّة أخرى من خلال هدايا بايدن لترامب وإردوغان قبل المغادرة: “أدرجنا معظم قيادات حماس على لوائح الإرهاب وسنقبض عليهم. ونطالب دول المنطقة وعلى رأسهم تركيا بعدم التعامل معهم بعد الآن”.
حذارِ الاصطفافات الصّليبيّة
يحذّر سليمان سيفي أوغون ومحمود أفور في الإعلام التركي المقرّب من حزب العدالة والتنمية من خطر تركيبة الفريق الرئاسي والحكومي لدونالد ترامب ومن اصطفافات عالمية “صليبية جديدة” قد تبرز.
أوغون يقول: “علينا أن نستعدّ لمواجهة قد تكون على هيئة حملة صليبية جديدة، حيث قد يقود التحالف الذي يضمّ الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأوراسيا والهند حملة معادية للإسلام تتمحور حول إسرائيل. وهناك عدّة مؤشّرات تدعم هذا الاحتمال”.
قيادات العدالة والتنمية لا تتبنّى طروحات من هذا النوع. لكنّها تردّد أنّها ستتمسّك بمواقفها وسياساتها في التعامل مع الملفّات المرتبطة مباشرة بالأمن القومي ومصالح تركيا.