رحيل قيس الزبيدي... السينمائي العراقي الذي شغلته فلسطين
رحل المخرج والكاتب العراقي قيس الزبيدي (1939 ــ 2024)، أحد أبرز الرواد في السينما الوثائقية العربية. ترك الزبيدي إرثاً فنياً وثقافياً غنياً من خلال أعماله التي جمعت بين الإبداع والالتزام بالقضايا السياسية والاجتماعية، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية.
وُلد قيس الزبيدي في بغداد عام 1939، وبدأ اهتمامه بالسينما يتبلور خلال دراسته في ألمانيا، وتخرّج من معهد الفيلم العالي في بابلسبرغ. وقد حصل على دبلوم في المونتاج عام 1964 وآخر في التصوير عام 1969. وبحسب موقع "أيام فلسطين السينمائية"، حصل على درجة الإخراج عند كتابة وتصوير ومونتاج فيلمه "في سنوات طيران النورس". أخرج مجموعة من الأفلام العربية القصيرة والطويلة في ألمانيا ودمشق ولبنان وتونس وفلسطين.
شغفه بالسينما دفعه للتركيز على الجانب الوثائقي، الذي رأى فيه وسيلة لنقل الواقع الاجتماعي والسياسي بصدق ودقة. ومنذ ستينيات القرن الماضي، بدأت أعماله تلقى اهتمامًا واسعًا بسبب أسلوبه الذي يمزج بين الإبداع الفني والالتزام بقضايا الشعوب.
من أبرز إنجازات الزبيدي كانت إسهاماته في السينما الوثائقية الفلسطينية، وقد كرّس العديد من أفلامه لتوثيق معاناة الشعب الفلسطيني. فيلمه "بعيداً عن الوطن" (1969) يعتبر نقطة تحول في مسيرته، حيث عرض معاناة اللاجئين الفلسطينيين من خلال تصوير حياة الأطفال في المخيمات. كما عمل في دمشق في مؤسسة السينما والتلفزيون السوري، حيث أنتج فيلمه الشهير "نداء الأرض" (1976).
سعى قيس الزبيدي دائمًا إلى خلق لغة سينمائية جديدة متأثرة بالتيارات الأوروبية الفنية التي تعلمها أثناء دراسته. فكان يؤمن بأن السينما ليست مجرد وسيلة للتسلية، بل أداة قوية لإيصال رسائل سياسية واجتماعية، وهو ما تجسد في أفلامه التسجيلية. على مدار مسيرته، خاض الزبيدي معارك فكرية وفنية لتطوير السينما التسجيلية العربية وتوجيهها نحو التفاعل مع القضايا الحقيقية التي تواجه المجتمعات العربية.
في أوائل السبعينيات، شارك الزبيدي في مهرجان السينما العربية البديلة في دمشق، حيث لعب دورًا رئيسيًا في تعزيز هذا التيار الذي حاول التمرد على الأساليب التقليدية للسينما العربية. كان يؤمن بأن السينما البديلة هي وسيلة لإيصال صوت المهمشين وإظهار حقائق الواقع الاجتماعي والسياسي بعيداً عن التجميل أو التزييف. رغم أن هذا التيار لم يلقَ النجاح الذي كان يأمله، إلا أن أفلام المخرج العراقي ظلت شاهدة على هذا الجهد الذي سعى لتغيير الواقع السينمائي العربي.
ولعل فيلم "اليازرلي" الذي أخرجه الزبيدي (1972) يبقى الشاهد الأمثل على الصراع بين التيارات الثقافية والفنية التقليدية السائدة وبين التيار البديل. إذ مُنع الفيلم من العرض بسبب "محتواه الجنسي"، هو عمل ينتمي لمشروع "السينما البديلة" الذي سعى لابتكار لغة سينمائية جديدة تعبّر عن الواقع السياسي والاجتماعي في المجتمعات العربية. رغم إبداعه، جرى تهميش الفيلم بسبب ظروف سياسية وثقافية، تماماً كما حدث مع العديد من الأفلام الأخرى في تلك الحقبة.
كما ألّف عدداً من الكتب، بينها "فلسطين في السينما" الصادر عام 2006، وهو عمل مرجعي يوثّق التجارب السينمائية التي تناولت القضية في مختلف مراحل الصراع. جمع الزبيدي الأفلام الفلسطينية التي تحدثت عن فلسطين خلال تسعين عاماً، تبدأ مع وعد بلفور وتنتهي عام 2005، حيث ضمّ الكتاب 800 فيلم، جرى جمعها للمحافظة على الأرشيف السينمائي الفلسطيني الذي تعرض لأكثر من نكسة، خصوصاً أيام اجتياح بيروت عام 1982.
حصل الزبيدي على العديد من الجوائز الدولية والعربية تقديرًا لإبداعه. إضافة إلى عمله مخرجاً، كان له دور بارز مونتيراً، حيث ساهم في تطوير أساليب جديدة في المونتاج السينمائي أثرت بشكل كبير على الإنتاجات الوثائقية والروائية في العالم العربي.