ترك برس
تتناول الروايات التاريخية التركية واليمنية الوجود العثماني في اليمن من زوايا مختلفة، ما بين تصويره كاحتلال مأساوي ومواجهة مع شعوب رافضة، كما في رواية "يمن.. أهٍ يا يمن!" للتركي محمد نيازي، وبين نقد السلطة ومآلاتها، كما في رواية "الحقل المحترق" لليمني ريّان الشيباني. تتقاطع السرديات بين التاريخ والخيال، لتكشف عن إشكاليات العلاقة بين المحتل والمحتلّ، والذاكرة الشعبية التي تخلّدت في الحكايات والأغاني.
في روايته "يمن.. أهٍ يا يمن!"، يتناول الكاتب التركي محمد نيازي إشكالية تاريخية عن علاقة الدولة العثمانية بالولايات العربية التي كانت تابعة لها إداريا. تعبّر الرواية عن وجهة النظر التركية الرسمية آنذاك، التي اعتبرت البلدان العربية جزءا من الوطن التركي استنادا إلى مركزية الخلافة الإسلامية، التي اتخذت من إسطنبول عاصمة لها.
الروائي نيازي (1942- 2018) الذي درس في المانيا وألّف عددا من الروايات ذات الطابع التاريخي، عكس، أيضا، نظرة المجتمع التركي تجاه الوجود العثماني في اليمن، الذي امتد في مرحلته الأولى من عام 1539 إلى عام 1634، وفي مرحلته الثانية من عام 1849 إلى 1918.
فالمجتمع التركي لا يزال إلى الآن يردد العبارة الشهيرة "من يذهب إلى اليمن لا يعود"، مستذكرا قصص الأجداد الذين شاركوا في حملات قمع اليمنيين الذين رفضوا الخضوع للدولة العثمانية، ورأوا في تدخلها احتلالا وغزوا لبلادهم، وليس "فتحا" كما روّجت أدبيات الخلافة العثمانية، بحسب تقرير لموقع "المجلة".
صورت الحكايات والأمثال الشعبية اليمن كمقبرة للأتراك. وجاء في إهداء الرواية الموجه إلى "شهداء اليمن" قول المؤلف: "يا مقبرة تركيا العظيمة التي تمتد على مد البصر! كم ابتلعت من الشبان الصغار! هم أيضا كانت لديهم طموحات ورغبات في الحياة".
تشير الأغاني التركية الشهيرة، التي لا تزال تتردد حتى اليوم، إلى مآسي من رحلوا إلى اليمن، ويبدو أن الكاتب استلهم عنوان الرواية من هذه الأغاني. الرواية، التي صدرت أخيرا عن دار "عناوين" في القاهرة بترجمة زينب قاسم وتحرير هشام شمسان، تحاول سرد خيبات الجنود الأتراك أثناء مواجهتهم الانتفاضات اليمنية قبيل انسحابهم في نهاية العقد الثاني من القرن العشرين. كما تعكس رؤيتهم لأبناء اليمن بوصفهم "متمرّدين" و"خونة" يتعاونون مع الأجنبي لتقويض "الوطن"، الذي كان في نظرهم تركيا، وبوصف اليمن جزءا منه: "إذا كان موت أمّة ما كافيا لجعل الأرض وطنا، فمن يشك في أنّ اليمن وطن تركي".
قات وقهوة
يروي الكاتب العديد من قصص الضباط والموظفين الذين قدموا من إسطنبول للعيش في اليمن، وينقل من خلالهم تفاصيل عادات اليمنيين في المأكل والملبس والمعاملات، وحتى جلسات القات: "يمنح مضغ القات سعادة ورغبة في المحادثة، فيعيش الإنسان أجواء من البهجة. ولكن، بعد فترة من المحادثات، تنتهي نشوة السعادة، ليحل الكسل والخمول، وعندما يحين وقت النرجيلة، تغلق العيون تدريجيا ويترك التفكير مكانه للخيال".
أما القهوة، فإن اليمنيين يبيعون حبوب البن إلى الخارج، بينما يغلون قشرها ويشربونه "فهو يزيد الحرارة، لا سيما في فصل الشتاء". ويعود إلى بعض الكتب والمراجع لينقل، بأسلوب يشبه التقرير، وقائع تاريخية حول المعارك وأحداثها وأسلحتها ورجالها وخسائرها وحتى أحوال الطقس التي صاحبتها في كل منطقة يمنية. ولأن الرواية تندرج تحت تصنيف الرواية التاريخية المتخيلة، يذكر السارد أسماء حقيقية من الحكام اليمنيين والولاة العثمانيين، مثل الإمام يحيى وأحمد عزت باشا. كما أن السارد يتتبع بعض العلاقات الأسرية، كمراسلة الملازم الثاني جلال الدين مع خطيبته خديجة، ولا يخفي تساؤلاته حول ما إذا كان القتلى الأتراك شهداء وهم يقاتلون أشقاء مسلمين، "ربما النية هي التي تحدد إن كان موته يعتبر شهادة أم لا؟ كان الملازم الثاني زكريا أفندي يناضل في سبيل مواصلة وجود المسلمين في العالم والوصول إلى مستوى حضاري يليق بشرفهم وكرامتهم... إنه شهيد بالتأكيد!".
الحقل المحترق
للكاتب اليمني ريّان الشيباني رواية بعنوان "الحقل المحترق"، صدرت عن دار "خطوط وظلال" في الأردن، يسرد فيها آخر أيام الأتراك في اليمن من الوجهة الفنية وليست التاريخية، وإن اتكأت زمنيا على المرحلة ذاتها. فهذه الرواية لا تبدو منحازة أيديولوجيا، على عكس الرواية التركية، وتقدّم إشكالية إنسانية لزمن انتهاء الإمبراطورية العثمانية، مسبوقا بنهاية الوجود العثماني في اليمن، التي وصفت بـ"السعيدة" في الرواية، عبر الوالي آق ديلك بيك، وهو شخصية رمزية، تعاني من اضطرابات جنسية وازدواجية في أصولها العائلية، إذ ولد من أم مسيحية في الساحل الشمالي الافريقي، وأب حاول إصلاح ميوله الغريبة بإرساله للدراسة العسكرية في باريس. وحين يقوم بعدها بإخماد تمردين في العراق والشام، يكلّف الذهاب إلى اليمن للقيام بالمهمة نفسها، وهو ما لا يمكن تحققه مع تداعيات الأحداث، إثر إحراق ضباطه "آلاف الهكتارات من حقول الفلاحين الذي امتنعوا عن دفع الضرائب على محاصيلهم".
رغم تصوير الرواية شخصية الوالي مضطربة ومزاجية، فإن ذلك ليس لإبراز الحاكم المحلي الجديد، الذي يماثل الوالي في كثير من التصرفات الاستبدادية. بل إن الحاكم فكّر في الاستفادة من خبرة الوالي "لتحصين المملكة من جائحة العصرنة". ومثلما "كان السبق لإمبراطورية الخلافة المنحلة، في إدخال منظومة التلغراف السلكي، لوصل السعيدة ببحار العالم ويابسته، ها هو ممثلها الأول في اليمن يوظف خبرته لتقويض تسرب أخبار البلد إلى الخارج والعكس". وتبعا لهذا المنحى، جُرّم استخدام المرايا باعتبارها نوعا من التجسيد الحرام.
تبدأ الرواية مع خبر الانهيار الهائل للإمبراطورية، الذي يصل إلى الوالي في بلد "تتناسل فيه الزعامات، والولاة الاستعماريون جنبا إلى جنب مع قطاع الطرق وأسراب الجراد والمتسولين لتصير السلطة فعلا تائها في حيرة الزحمة".
تتداخل الأزمنة في الرواية، كما يتعاقب الولاة الأتراك على السعيدة، "البلد المهووس باستقبال الأجانب كمخلصين، ثم دفنهم على ترابه كمحتلين". وهو بلد "لا يستحضر إلا بكونه معادلا موضوعيا للمقابر". مع ذلك، لا يبدو الوجود العثماني في اليمن الذي يتكئ عليه السرد، هو الإشكالية الرئيسة للرواية، بل محنة السلطة وانفصام الشغوفين بها. وهو انفصام يبدأ من المرحلة الباريسية، حيث كان "يقف أمام المرآة، بالقميص المجنح الذي يعطيه مظهرا بوهيميا، ويبدأ بمخاطبة وجهه على اللوح الزجاجي الصقيل، مرّة بالصيغة المذكّرة، وأخرى بالصيغة المؤنثة"، وينتهي بالمقام الشريف للحاكم الجديد، إذ يُترك الوالي للأطفال ليلعبوا به ويتخذوا منه دابة يمتطونها. وقد استطاع الكاتب من خلال اختياره لاسم رمزي للوالي أن يصور اشكالياته الموضوعية، كعلاقته بالدين والنساء، ومن ثم تهتكه بعد انهيار الخلافة، دون التقيد بالشخصية الواقعية التاريخية.
ما يميّز رواية الشيباني، هو اتساع مساحة الخيال على حساب الوقائع التاريخية، مما يجعلها تبدو خارج الزمن والموضوع اللذين أريد لها أن تكون في إطارهما. فمن خلال قراءة أكثر جوانبها وتفصيلاتها، يمكن القول إنها رواية العجز عن الحب والشغف به في الوقت نفسه. الشعف بالحياة وبكل شيء فيها، بما في ذلك شغف الكاتب بالكتابة. وهو شغف مكتوب بتناغم إيقاعي يشبه الألوان التي يرسمها ريّان في لوحاته التشكيلية أيضا.