ترك برس
سلّط مقال على موقع "الجزيرة نت"، الضوء على الدور التركي في التطورات الأخيرة التي تشهدها الساحة السورية، متوقعا أن يكون هناك دور محوري لأنقرة في المرحلة المقبلة.
وأشار كاتب المقال محمد سرميني، إلى أن الشمال السوري شهد تطورات ميدانية وسياسية متسارعة تُنبئ بتحولات كبيرة في ميزان القوى المحلية والإقليمية، لتتجاوز هذه الأحداث كونها معارك عسكرية إلى كونها خطوات على طريق إعادة تشكيل الجغرافيا السياسية للمنطقة بما يتماشى مع مصالح الأطراف الفاعلة.
وأضاف أن "هذه التحولات تمثل امتدادًا لحراك إقليمي ودولي يهدف لإعادة صياغة المشهد السوري، حيث تلعب المصالح الإستراتيجية دورًا حاسمًا."
وفيما يلي تتمة المقال:
المعطيات الأخيرة تكشف سعيًا واضحًا من قوى إقليمية ودولية لإنهاء النفوذ الإيراني في سوريا، بدءًا من الشمال، مع تصعيد مرتقب لاستهداف هذا النفوذ في الجنوب.
بعد سنوات من الاستثمار الإيراني في دعم النظام السوري وتثبيت وجودها العسكري، تواجه طهران اليوم تحديات كبرى في ظل عزلة دولية وضغوط متزايدة تقلص خياراتها الميدانية.
التحركات في حلب تحمل دلالات واضحة؛ حيث انطلقت الهجمات في سياق توقيت مدروس لا يخلو من إشارات سياسية عميقة. جاءت العملية متزامنة مع انتهاء الحرب في لبنان، وهو ما يضعف قدرة حزب الله على دعم حلفائه داخل سوريا.
اللافت أن هذه التطورات بدأت باغتيال الجنرال الإيراني كيومرت بورهاشمي، أحد القادة العسكريين البارزين في سوريا، تبعتها استهداف القنصلية الإيرانية في حلب، مما يرسخ التصور بأن العملية تهدف بالأساس لتقويض نفوذ إيران، إلى جانب مكاسب أخرى.
ومع مرور حوالي أسبوع على انطلاق العملية، إلا أن الموقف الروسي منها ما زال مبهمًا، حيث تجنبت حتى الآن المشاركة في دعم النظام السوري عسكريًا، وحتى سياسيًا، كما كانت تفعل في مثل هذه الحالات سابقًا.
وقد يعكس هذا الأمر تفاهمًا تركيًا روسيًا، فعليًا أو ضمنيًا، أو يعكس رغبة روسية في التريث إلى حين ظهور معطيات جديدة على الأرض.
ويبدو الموقف الأميركي مشابهًا هو الآخر، إذ لم تقم واشنطن بتصريحات حادة في هذا الاتجاه. وسيظهر الموقف الأميركي بشكل واضح في حال تغاضيها عن مرور الفصائل العراقية الموالية لإيران بشكل كبير إلى الأراضي السورية، إذ سيعني ذلك أن واشنطن غير راضية عن هذا التمدد لفصائل المعارضة السنية، أو أنها ترغب في صدام شيعي- سني جديد يؤدي إلى إنهاك الطرفين.
ورغم أن إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا يصب في المصلحة الإسرائيلية، فإن تراجع نفوذ قسد من جهة، وتمدد القوى السنية التي تراها تل أبيب متطرفة قد يمنعان إسرائيل من دعم العملية، وإن كانت لا تُمانع في وضع النظام السوري وحليفه الإيراني تحت الضغط الأقصى.
وحتى الآن تبدو تركيا هي الرابح الأكبر مما حصل في الشمال السوري، فرغم نفيها أي دور في العملية، فإنها الطرف الدولي الذي يملك أكبر تأثير على كل الفصائل المشاركة، وفي حال استمرار سيطرة هذه الفصائل على مكتسباتها الحالية، فإن تركيا سيكون لها دور محوري في أي تسوية مقبلة.
وبالمقابل تُظهر العملية أن أبرز الخاسرين منها حتى الآن هو النظام السوري، والذي عاد خلال أيام إلى حالة الانهيار التي عاشها في عام 2012، ومعها انهارت كل سرديته عن "الانتصار" و"الاستقرار"، وجهوده – بدعم من عدة فاعلين إقليميين – للانتقال إلى مرحلة ما بعد الاستقرار، من إعادة إنتاج النظام إلى مشاريع التعافي المبكر وإعادة الإعمار.
كما أن إيران هي من بين أهم الخاسرين حتى الآن، فقد خسرت هي الأخرى نفوذها في الشمال السوري، والذي استثمرت فيه ماليًا وبشريًا لسنوات طويلة، وهي في وضع حرج سياسيًا وعسكريًا، إذ ما استمر الحياد الروسي عن المعركة، إذ إن إرسال مقاتليها إلى الشمال السوري دون غطاء جوي سيكون مشروعًا لمحرقة مشابهة لتلك التي تعرّضت لها فصائلها في الفترة بين عامي 2014-2015، والتي انتهت بتوجه قائد فيلق القدس آنذاك قاسم سليماني لطلب التدخل الروسي، والذي حصل قبل عدة أسابيع من حتمية سقوط النظام السوري، وفقًا لما صرّح به وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف لاحقًا.
تبدو قوات سوريا الديمقراطية (قسد) هي الأخرى من بين الخاسرين حتى الآن، فقدت خسرت تواجدها في مدينة حلب وفي تل رفعت المجاورة، وقد تخسر تواجدها فيما تبقى من ريف حلب.
وحتى لو تغيرت المعطيات الحالية، فإنّ من الصعب توقع عودة سيطرة قسد على هذه المناطق في أي سيناريو مستقبلي، حيث جاءت هذه السيطرة وفق معطيات تاريخية لم تعد قائمة اليوم.
وبالعموم، فإن التطورات الحالية في سوريا تعيد خلط الأوراق في المشهد الذي اتسم بالركود منذ نحو ثماني سنوات، وسوف تكون مخرجاتها الحالية ذات أثر عميق على الحالة السورية أولًا، وربما على المشهد الإقليمي والدولي ثانيًا.
فكل الأطراف الدولية تستعد من الآن للولاية الثانية للرئيس الأميركي دونالد ترامب، والذي سيسعى لعقد صفقة في أوكرانيا، وأخرى في الشرق الأوسط، وربما يُعيد محاولة تنفيذ رغبته السابقة بسحب قواته من سوريا، بالتوازي مع رغبته في إعادة فرض العقوبات القصوى على إيران، واستكمال المشروع الإسرائيلي بإنهاك الأذرع الإيرانية في المنطقة. ولذا فإنّ التغيرات الحالية على الأرض السورية ستكون معطيات في معادلات الصفقات القادمة.
وعلى المستوى المحلي، فإن استعادة المعارضة السورية مدينة حلب تُعيد تشكيل ديناميكيات الصراع، وتمنح المعارضة دورًا تفاوضيًا أقوى، وتفتح الباب أمام تركيا لتعزيز نفوذها كقوة إقليمية ذات تأثير مباشر في مستقبل سوريا.
الأحداث الجارية تمهد لمرحلة جديدة في سوريا، قائمة على إعادة توزيع مناطق النفوذ بين القوى الكبرى، مع دفع إيران خارج المشهد تدريجيًا. لا تقتصر هذه التطورات على الجانب العسكري، بل تشمل ترتيبات سياسية واقتصادية تُظهر أن اللاعبين الرئيسيين قد بدؤُوا بالفعل رسم خطوط التسوية المقبلة.
ما تشهده سوريا اليوم قد يكون إيذانًا بانتهاء مرحلة طويلة من النفوذ الإيراني، وبدء أخرى تهيمن عليها مصالح تركيا وروسيا. ودخول إدارة أميركية جديدة إلى البيت الأبيض قد يُسرّع من وتيرة الأحداث، حيث تتجه الأنظار إلى مزيد من التصعيد في مواجهة إيران، سواء عبر تشديد العقوبات الاقتصادية، أو تقليص قنواتها المالية في المنطقة.
بهذا الواقع، يبدو أن حلب ليست سوى الخطوة الأولى نحو إعادة تشكيل المشهد السوري، ضمن مسار طويل من التفاوض والمعارك التي ستحدد مستقبل البلاد والمنطقة بأسرها.