ترك برس
خلص تقرير تحليلي للكاتب والباحث في الشأن التركي سمير العركي، إلى أن انتهاء حقبة البعث السوري وحكم "آل الأسد"، هو بمثابة "تسونامي" سياسي، سيترك أثره ليس على الداخل التركي فقط، بل على المنطقة كلها.
وقال العركي في تقريره بموقع الجزيرة نت إن عبارة "تركيا قد تتأخّر في فعل اللازم لكنها تفعله بالنهاية"، العائدة لوزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، تشرح الكثير في طريقة عمل الدولة التركية تجاه الأزمات التي تواجهها، والأزمة السورية خير مثال على ذلك.
وأوضح أنه في الفترة بين عامي 2016 و2020 أطلقت تركيا أربع عمليات عسكرية داخل سوريا لتطهير منطقة الحدود من المنظمات الانفصالية المصنفة على قوائم الإرهاب داخل تركيا، والتي تعد فروعًا للتنظيم الأمّ في تركيا، حزب العمال الكردستاني PKK.
وذكر أنه على مدار أربع سنوات، عمدت تركيا إلى تجميد الأوضاع في سوريا، مع الاستمرار في مكافحة الإرهاب عبر اعتماد أساليب أخرى متنوعة، كما أن المتابع للملف السوري، كان يلحظ بسهولة الجهود التركية لإعادة تأهيل فصائل المعارضة السورية المسلحة، لتتحول إلى كيانات أكثر انضباطًا واحترافية.
"لذا فمع انطلاق عملية ردع العدوان في 27 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، اتجهت الأنظار صوب تركيا، باعتبارها الدولة الداعمة لفصائل المعارضة السورية بأشكال متنوعة".
والآن مع نجاح المعارضة في الإطاحة بالرئيس السوري، بشار الأسد، فإن المكاسب الإستراتيجية لتركيا على الصعيدين الخارجي والداخلي تعاظمت بشكل واضح، لكننا سنكتفي في هذا المقال برصد تأثيرات ذلك، على الداخل التركي. وفقا للكاتب.
وتابع التقرير:
أحدثت التطورات العسكرية في سوريا منذ بدايتها، حالة من الجدل بين الأحزاب السياسية، وصلت إلى حد التراشق الكلامي، على خلفية الأيديولوجيات المتضادة.
فزعيم حزب الحركة القومية MHP "يميني"، دولت بهتشلي، أبدى فرحته الشديدة بتحرير مدينة حلب، معتبرًا ذلك شعور كل تركي، ومعللًا إياه بأن حلب "تركية ومسلمة حتى النخاع"، مطالبًا الجميع بالعودة إلى حقائق التاريخ والجغرافيا.
وحتى يتم فهم كلام بهتشلي، ووضعه في سياقه الصحيح، لابد من التذكير بأن ولاية حلب زمن الدولة العثمانية، كانت تعد الولاية الأهم والكبرى، وتمتد جغرافيًا من حلب الحالية لتضم مساحات واسعة من شمال سوريا، إضافة إلى ولايات الجنوب الشرقي الحالي في تركيا، وصولًا إلى مدينة مرعش.
فهذه المساحة الجغرافية الكبيرة، خلفت دونما شك إرثًا حضاريًا وثقافيًا وديمغرافيًا مشتركًا ومتنوعًا، لم يستطع التقسيم التالي للولاية ما بين دولتي تركيا وسوريا أن يمحوه.
لكن في مقابل بهتشلي، كان هناك انزعاج واضح من حزب الديمقراطية والمشاركة الشعبية DEM "يساري كردي" حيث طالبت الرئيسة المشاركة للحزب، تولاي أوغولاري، أطرافًا لم تسمّها، وإن كان معروفًا أنها تقصد الحكومة وحلفاءها، بعدم الوقوع " فريسة الحماس والانتهازية لتدمير مكتسبات الكرد في سوريا وروج آفا ( تشير إلى شمال سوريا وتعني غرب كردستان)".
كما نددت تولاي باستهداف التنظيمات التابعة لتنظيم حزب العمال PKK في سوريا، معتبرة أنه "من المستحيل تسديد الرمح للأكراد الذين يعيشون في روج آفا، ومد غصن الزيتون للأكراد في تركيا!".
لم يكتفِ الحزب بذلك بل صعد من هجومه، حيث اتهمت نائبة رئيس المجموعة البرلمانية للحزب، غولستان كيليتش، الدولة بمحاولة "غزو سوريا واحتلال حلب"، وذلك على خلفية رفع العلم التركي فوق قلعة حلب.
الرد على غولستان، جاء من رئيس حزب الاتحاد الكبير BBP "يميني"، مصطفى ديستجي، معتبرًا أن مناطق سوريّة مثل عين العرب "كوباني" والحسكة وغيرها ليست مناطق تابعة لحزب العمال، حتى يقوم باحتلالها، وقال: إن " تركيا لن تنحني أمام الإرهاب وامتدادات المنظمات الإرهابية والقوى الإمبريالية التي تجعل من الإرهاب مشكلة لأمتنا!".
كما أن الإطاحة بنظام بشار الأسد، ستحرم المعارضة التركية وخاصة حزبي الشعب الجمهوري CHP "يساري أتاتوركي"، وحزب السعادة SP "إسلامي"، من ورقة كانا يستخدمانها ضد أردوغان، في إطار الصراع الحزبي.
انحسار الإرهاب
هذا الجدل العنيف بين الأحزاب التركية الذي أشرنا إليه على وقع تطورات الملف السوري، لا يمكن فهمه إلا ضمن نقاش أوسع بشأن مشكلة الإرهاب الذي تعاني منه تركيا منذ عقود.
فخلال الأسابيع القليلة الماضية، تفاجأ الرأي العام التركي بمبادرة رئيس حزب الحركة القومية، دولت بهتشلي، والتي دعا من خلالها، زعيم حزب العمال، المسجون حاليًا، عبدالله أوجلان، للقدوم إلى البرلمان، والتحدث إلى أعضاء الكتلة النيابية لحزب المشاركة الشعبية والديمقراطية، والإعلان عن حل التنظيم وإلقاء السلاح، مقابل إمكانية العفو عنه.
هذا العرض غير المسبوق من زعيم قومي له مكانته وتأثيره مثل بهتشلي، لاقى ردودًا إيجابية من الرئيس، رجب طيب أردوغان حتى الآن.
لكن في موازاة ذلك لم يكن الحل الأمني غائبًا، فقد عمدت الدولة إلى اتخاذ عدد من التدابير الاستثنائية، فعزلت بعض رؤساء البلديات، وأحالتهم على جهات التحقيق بتهمة التعاون مع الإرهاب.
فيما لم يكن الحديث متوقفًا عن إمكانية شن عملية عسكرية في شمال سوريا لطرد التنظيمات السورية التابعة لحزب العمال الكردستاني من منطقة غرب الفرات.
لكن الإطاحة ببشار، ستمنح تركيا قوة إضافية في هذا الملف، خاصة مع نجاح قوات الجيش الوطني في طرد تنظيم وحدات الحماية الكردية YPG من مدينة تل رفعت بريف حلب الشمالي، وهو ذات المصير المرتقب حدوثه في أي وقت لقوات التنظيم في مدينة منبج.
أضف إلى ذلك، ما أعلنه وزير الدفاع، يشار غولار، يوم 26 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، أي قبل انطلاق عملية ردع العدوان، بيوم واحد فقط، بشأن تطهير منطقة الزاب شمال العراق من تنظيم حزب العمال.
كل هذا سيمثل ضغطًا على شديدًا على الداعمين السياسيين للتنظيم داخل تركيا، وفي مقدمتهم حزب المشاركة الشعبية والديمقراطية، وأيضًا على أوجلان نفسه، الأمر الذي قد يزيد من قناعاتهم بعدم جدوى استمرار التنظيم المسلح، وعبثية ديمومة المواجهات الدموية المستمرة منذ أكثر من 40 عامًا، وأن الأفضل للحالة الكردية، الانخراط الكامل في العملية السياسية، خاصة مع اختفاء نظام البعث السوري أحد أهم الداعمين التاريخيين لحزب العمال.
حل أزمة اللاجئين
يترقّب الجميع داخل تركيا أن تقود تلك التطورات إلى حل أزمة اللاجئين، الذين تقدر أعدادهم وفق الإحصائيات الرسمية قرابة 3 ملايين لاجئ.
هذه الأزمة الإنسانية بالغة التعقيد والحساسية، تم تسييسها على مدار السنوات الماضية، ولعبت دورًا في خسائر حزب العدالة والتنمية الحاكم، على مستوى البرلمان والبلديات.
كما أنه وعلى أكتافها، صعدت أحزاب يمينية متطرفة، أحدثت جلبة وصخبًا، وقادت بعض الشرائح إلى ارتكاب انتهاكات في حق اللاجئين السوريين.
لكن استعادة الثورة السورية سيطرتها على العديد من المدن، وفي مقدمتها حلب ثم كامل الأراضي الآن، ستتيح الفرصة لعودة المزيد من اللاجئين مستقبلًا، ما يعني تخفيف الضغط على الداخل التركي.
فبحسب وزير الداخلية، علي يرليكايا، فإن أكثر من 1.2 مليون لاجئ ينحدرون من حلب فقط، أي أن استتباب الأوضاع هناك، سيمكن قرابة 42% من اللاجئين داخل تركيا من مغادرتها طوعًا، إضافة إلى قرابة 190 ألفًا آخرين منحدرين من إدلب التي تمت السيطرة عليها كاملة.
هذه الأرقام ستتضاعف حال تمت تهيئة الأمور في بقية الأنحاء السورية، بما يسمح بعودة اللاجئين من تركيا، إضافة إلى النازحين على حدودها.
هذه العودة حال إتمامها، ستفقد الأحزاب العنصرية ورقة ضغط كانوا يستخدمونها ضد الحكومة، ورئة كانوا يتنفسون منها، تعويضًا لضعف حضورهم الشعبي.
ولا ننسى أن حل أزمة اللاجئين السوريين، سيساعد الحزب الحاكم على تعويض بعض خسائره السياسية، التي مني بها على مدار السنوات الأخيرة.
الطريق إلى 2028
لا نبالغ إذ نقول إن تأثير الإطاحة ببشار ونظام حزب البعث، خاصة إذا اتجهت صوب الاستقرار وإعادة بناء نظام سياسي جديد، سيعيد تشكيل المشهد السياسي التركي استعدادًا للاستحقاقات الانتخابية عام 2028 من خلال عدد من المتغيرات أهمها:
إلغاء بعض القوى السياسية "خاصة الكردية" رهانها على حزب العمال الكردستاني وقدرته على تأسيس كيان انفصالي في شمال سوريا، ومن ثم اختيار الانخراط الكامل في العملية السياسية.
ومن ثم ازدياد قناعة تلك القوى بالمشاركة الإيجابية في وضع دستور جديد للبلاد، ما قد يفتح الباب أمام أردوغان للترشح مجددًا إذا ما أراد ذلك.
استعادة حزب العدالة والتنمية زخمه السابق، واستمراره في موقع الصدارة الحزبية بفارق مريح، خاصة إذا تحسنت الأوضاع الاقتصادية وانخفضت نسب التضخم.
والخلاصة، أن انتهاء حقبة البعث السوري وحكم "آل الأسد"، هو بمثابة "تسونامي" سياسي، سيترك أثره ليس على الداخل التركي فقط، بل على المنطقة كلها.