ترك برس
راى السياسي والأكاديمي التركي ياسين أقطاي، أن الادعاء بأن روسيا وإيران قد تخلتا عن نظام بشار الأسد في سوريا، وأنهما لم تقدما له دعمهما السابق بسبب بعض الخلافات، ليس سوى تحليل سطحي قائم على النتائج الظاهرة فقط.
وأوضح أقطاي في مقال بصحيفة يني شفق أن روسيا التي تواجه حربًا مصيرية لها في أوكرانيا، لم تكن لتوجه مواردها الجوية المحدودة لإحياء نظام يحتضر في سوريا على حساب مصالحها الأهم. ولو كانت تملك قنبلة إضافية، لكانت وجهتها بلا شك إلى أوكرانيا.
أما إيران، فقد حاولت عند بدء العمليات حشد جميع قواتها في سوريا من العراق وإيران وحتى لبنان. لكن الأحداث تطورت بسرعة هائلة، مما جعل كل موقع يسيطر عليه الثوار يزيد من صعوبة مواجهة القوات الإيرانية لهم، وفقا للكاتب.
وفيما يلي نص المقال:
لقد أشرنا منذ المراحل الأولى للثورة التي أطاحت بنظام البعث الذي استمر لـ 61 عامًا، ودكتاتورية عائلة الأسد التي حكمت 54 عامًا، إلى أن تحرير حلب سيفتح الباب لحل الأزمة السورية. ولكننا لم نتوقع في تلك المرحلة، أن تُفتح أبواب حلب بهذه السرعة المذهلة على مصراعيها لتقود إلى حل شامل وغير متوقع على مستوى سوريا بأكملها. في الواقع مهما قيل لاحقًا، لم يكن أحد يتوقع ذلك. فعندما بدأت عملية "ردع العدوان"، بدأت ملامح تحرير حلب تلوح في الأفق، وهو إنجاز كان سيُعتبر، في تلك المرحلة، خطوة كبيرة نحو تخفيف الأعباء التي عانت منها تركيا وشعب سوريا بأسره على مدار سنوات طويلة. ولكن، خلال فترة وجيزة، اشتعلت شرارة الحرية في جميع أنحاء سوريا، وبدأ نظام البعث في الانهيار المتسارع.
وفي هذه المرحلة، وبناءً على النتائج التي تحققت ظهرت تحليلات سياسية شائعة تدعي أن ما حدث كان نتيجة اتفاق بين القوى الكبرى، وكأن هذا التحليل هو الأكثر منطقية لتفسير ما جرى، إلا أن هذا النوع من التحليل السياسي التقليدي يعاني في جوهره من أمراض خطيرة. ولا نتحدث هنا عن أخطاء منطقية أو نقص في المعلومات، بل عن أمراض فكرية حقيقية.
دعونا أولاً نعالج مسألة نقص المعلومات. إن الادعاء بأن روسيا وإيران قد تخلتا عن الأسد، وأنهما لم تقدما له دعمهما السابق بسبب بعض الخلافات، ليس سوى تحليل سطحي قائم على النتائج الظاهرة فقط. فروسيا التي تواجه حربًا مصيرية لها في أوكرانيا، لم تكن لتوجه مواردها الجوية المحدودة لإحياء نظام يحتضر في سوريا على حساب مصالحها الأهم. ولو كانت تملك قنبلة إضافية، لكانت وجهتها بلا شك إلى أوكرانيا. فروسيا لم تتخلَّ عن الأسد حتى اللحظة الأخيرة، بل استخدمت ما تبقى لديها من موارد محدودة في المنطقة لدعم نظامه حتى اللحظة الأخيرة.
أما إيران، فقد حاولت عند بدء العمليات حشد جميع قواتها في سوريا من العراق وإيران وحتى لبنان. لكن الأحداث تطورت بسرعة هائلة، مما جعل كل موقع يسيطر عليه الثوار يزيد من صعوبة مواجهة القوات الإيرانية لهم. ولم يكن من السهل نقل القوات التي تريدها إيران إلى المواقع المطلوبة في ظل تلك الظروف. وبالتالي، كما هو الحال مع روسيا، لم تتخلَّ إيران عن الأسد أو نظامه، بل كانت شريكة في هزيمته. وكما شاركت في كافة جرائمه وجرائم الحرب التي ارتكبها ضد الإنسانية، فهي شريكة أيضاً في سقوطه.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فيمكن ملاحظة مدى عدم استعدادها لمجريات الأحداث من خلال ردة فعلها اللاحقة وحالة الذعر التي لا أصابتها والتي لا تزال تعيشها. إذ أن كافة جهودها في إنشاء مناطق سيطرة عبر تسليح وتنظيم عناصر تنظيم "بي كي كي/ واي بي جي" الإرهابي لم تكن تواجه أي معارضة من قبل نظام الأسد. وفي إطار حرصها على الحفاظ على مستوى الراحة التي تدهورت مع نظام الأسد، أعربت الولايات المتحدة عن قلقها من دخول الثوار السوريين إلى منبج في المرحلة الأولى. ولكن الشعب السوري الثائر كان بعيداً عن الاستماع لمطالب أمريكا. وبمجرد دخول منبج، بدأ النظام الذي أنشأته الولايات المتحدة يتزعزع. تلا ذلك بداية انتفاضة شعبية ضد الإدارة التي تدعمها الولايات المتحدة في دير الزور، مشابهة لتلك التي حدثت في درعا، ونتج عن ذلك تحرير المنطقة من المحتلين.
اليوم، أصبحت بوابة حلب تمثل بداية تحول جديد يشمل جميع أرجاء سوريا، فقد أدى تحريرها إلى خلق جو جديد في جميع أنحاء سوريا، مما دفع القوى الأجنبية التي عانت سوريا منها طوال السنوات الـ13 الماضية إلى الانسحاب. وبعد تحرير الضفة الغربية لنهر الفرات أصبح النظام الذي حاولت الولايات المتحدة فرضه على الأراضي السورية بلا أي أساس اجتماعي، مرفوضا من قبل سكان تلك المناطق. ولم يعد الآن لوجود الولايات المتحدة في سوريا، سواء بحجة مكافحة داعش أو غيرها من الأسباب، أي مبرر منطقي أو عملي. فالسبب الوحيد الذي كان يسمح لها بالعمل حتى الآن هو تعاونها مع نظام الأسد وإيران، وحالة التفكك في سوريا.
لن تتمكن الولايات المتحدة من الاستمرار في استخدام ذريعة مكافحة داعش كما كانت في السابق، خاصة مع انتشار صور سجن صيدنايا الصادمة، التي ستواجهها بتذكيرها بأنها كانت حاضرة بينما ارتُكبت هذه الجرائم ضد الإنسانية. ولن يكون للولايات المتحدة ما تقدمه للأكراد في سوريا، حيث إن سوريا الموحدة التي استعادت سيادتها ووحدة أراضيها ستمنح الأكراد حقوقًا وحريات لم يسبق لهم أن حصلوا عليها. ومن الجدير بالذكر أن الأكراد، الذين عانوا من أحد أنواع نظام الفصل العنصري تحت حكم البعث، كانت تركيا هي من دافع عن حقوقهم. وفي سوريا المحررة، سيحصل الأكراد على حقوقهم المشروعة دون زيادة أو نقصان، بينما الدور الذي حاولت الولايات المتحدة فرضه عليهم بحجة مكافحة داعش لم يكن سوى دفعهم نحو مغامرة خطيرة ومدمرة على صعيد علاقاتهم مع شعوب المنطقة. فعلى سبيل المثال، تكليف قوات تنظيم "بي كي كي" الإرهابي بمناصب قيادية في مناطق ذات أغلبية عربية كمنبج، ودير الزور، والرقة، لا يمثل دعمًا للأكراد وليس في صالحهم، بل يلحق بهم أضرارًا جسيمة.
وبينما كان وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن يصل إلى أنقرة في محاولة لترتيب الأوراق التي بعثرها سقوط نظام الأسد في سوريا، كانت مدينة الرقة تشهد انتفاضة شعبية ضد النظام المفروض عليها، حيث بدأ الأهالي بطرد عناصر تنظيم "بي كي كي/ واي بي جي" الإرهابي التي تتواجد هناك قسراً.
كل هذه الأحداث هي نتائج طبيعية للمناخ الذي أوجدته الثورة بوضوحها وسطوعها كالشمس. إن روح المرحلة الآن تطالب الجميع بإعادة تقييم مواقفهم وفق معطيات مختلفة تمامًا. وهكذا، لم تفتح حلب فقط أبواب الحل لكل سوريا، بل أصبحت سوريا نفسها نقطة انطلاق لتغيير كل الموازين الإقليمية. واليوم تلعب تركيا دورًا محوريًا في هذه المعادلة لم يسبق له مثيل في تاريخها، حيث باتت مفتاحًا رئيسيًا وقوة مؤثرة وحاسمة.
أما أولئك الذين يجدون صعوبة في تقبل هذا المشهد، فيستمرون في إطلاق تحليلات متشائمة تحت ستار الواقعية، ويحاولون إضعاف عزيمة الثورة ودفع أنصارها للندم على ما حققوه وتحويل فرحهم إلى حزن، مصورين أسوأ السيناريوهات المستقبلية على أنها حتمية. ولكن الاحتمالات المستقبلية لا حدود لها، وهذه التحليلات لا يمكن أن تتجاهل الحقيقة المتمثلة في أن القوى الثورية اليوم باتت أقوى وأكثر تقدمًا بمراحل مقارنة بما كانت عليه في السابق.
لا شك أن هذه الثورة لن تخلو من أعداء ومعارضين ومؤامرات وصعوبات وتحديات. ولكن هل يجب أن نندم على خوض هذه الثورة بسبب هذه الصعوبات والمشاكل والتهديدات المحتملة؟ هل هذا هو المطلوب منا؟
ويبدو بوضوح منذ اللحظات الأولى أن إسرائيل ستسعى إلى خنق هذه الثورة من خلال هجماتها الخسيسة والغادرة. على الأقل، يمكن القول إن هذه الهجمات الدنيئة قد أسهمت في دحض الأكاذيب التي روجها البعض حول أن الثورة ستخدم مصالح إسرائيل وستضعف ما يسمى بـ"جبهة المقاومة".
إن إقدام إسرائيل على شن هذه الهجمات العدوانية على سوريا رغم العداء الدولي الذي تتعرض له بسبب عدوانها على غزة، يظهر مدى قلقها من هذه الثورة. أما من يعتقد أن إسرائيل ستتمكن من احتلال سوريا، فعليه أن يشرح لنا كيف ستفعل ذلك وهي غارقة في مستنقع غزة ولبنان، وكيف ستتوفر لها القدرة على تنفيذ هذه الخطوة.