ندرت أرسنال - يني شفق
من بين أكثر القضايا التي يتم تجاهلها أثناء مناقشة أسباب ونتائج النجاح السوري، هو الدور الحقيقي لتركيا، والذي لا يتم تقديره بشكل كاف.
لا أتحدث هنا عن الإطراء أو المديح السطحي. فقد يتفق البعض أو يختلف مع نهج تركيا في السياسة الخارجية، وهذا شأن آخر. لكن إذا نظرتم بعين متفحصة إلى النقاشات التلفزيونية الممتدة لأكثر من أسبوعين وركزتم على "التحليلات الدقيقة"، ستلاحظون تجاهلاً متعمداً، أوتهرباً، من الإقرار بأن "النموذج الإنساني" الذي تتبناه تركيا هو نموذج فريد من نوعه، سواء على المستوى الإقليمي أو العالمي.
هناك دول أخرى تحاول تقديم العون بقدر إمكانياتها، كجنوب إفريقيا مثلا، ولكن لا توجد دولة أخرى تشارك بنفس القدر في النضال كتركيا، وهذه "الميدالية المتواضعة" التي حصدتها تركيا تتألق بذات البريق في كل من غزة وفلسطين وأوكرانيا، كما تتألق في سوريا.
وكما احتضنت تركيا بدموعها جسد الطفل السوري الصغير "آيلان" الذي جرفته الأمواج إلى الشاطئ في عام 2015، ووجهت صرختها المدوية في وجه العالم الخالي من الإنسانية، وكما واجهت بدموعها المشتعلة سياسات إسرائيل وأمريكا في فلسطين وغزة، فإنها اليوم أيضاً هي التي تبكي على معاناة الإنسانية المتألمة في معتقل صيدنايا حيث يتمنى السجناء الموت، أو ما يعرف بالمسلخ البشري "431"، وتجعل من آلامهم قضيتها الخاصة.
لقد تحركت تركيا ضد نماذج التعذيب الوحشية التي وصفها كافكا مطولاً في روايته " في مستعمرة العقاب"، والتي تحولت إلى واقع ملموس بأبعاد دولية.
لذا قبل كل شيء، عليكم أن تنفضوا الغبار عن ميداليتكم وتلمعوها بكمّكم، لتكون مرآة تعكس وجوه جلادي العالم، أو صفعة على وجههم.
في ذلك الوقت، كان عنوان المقال الذي نشرته هنا هو " "عندما تغيب الدولة، تطفو جثث أطفالكم على الشاطئ". كان هذا العنوان آنذاك يعكس ليس فقط مأساة الطفل "آيلان"، بل أيضًا الأزمات الكبرى التي شهدتها تركيا، بدءًا من أحداث "الخنادق" في جنوب شرق البلاد عام 2015، وصولًا إلى محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 يوليو 2016.
بعد تلك الأحداث، شهدت تركيا تحولًا جذريًا في مفهومها للأمن القومي ونهجها في السياسة الخارجية، حيث أُعيدت صياغة هذه المفاهيم واستقرت رؤيتها للسياسة الخارجية. وخلال العقد الماضي، تم تبني رؤى واستراتيجيات مبتكرة في مكافحة الإرهاب وتأمين الحدود الجنوبية للدولة.
أما اليوم، فقد بلغ نهج الدولة مرحلة "النضج"، ولم يعد مقتصرًا على خط إيران والعراق وسوريا، بل أصبح بوصلة توجه التعامل مع كافة الأحداث الإقليمية والعالمية التي وقعت في الفترة الزمنية نفسها.
وتجلّى هذا النهج في قضايا دولية وإقليمية متعددة، منها الحرب بين أرمينيا وأذربيجان، وأزمة ليبيا، وحرب أوكرانيا، وتطورات أفغانستان، إلى جانب مشاريع كبرى مثل "الوطن الأزرق"، و"الوطن السماوي"، وتشييد بنية تحتية متقدمة للصناعات الدفاعية، فضلاً عن مشاريع الطاقة الإقليمية والمحلية مثل محطة "آق قويو"، ومركز الطاقة، ومبادرة "طريق التنمية".
وجدت تركيا طريقها بنفسها، وعندما عجزت عن ذلك، توصلت إلى حقيقة مفادها أن أكبر تهديدات تواجه وجودها تأتي من حلفائها.
مر هذا الاعتقاد بمراحل مختلفة على مر السنين؛ ففي مرحلة ما، تعرضت للضغوط بسبب ما قيل عن "انحراف محور تركيا". وفي مرحلة أخرى، تم تصوير المشكلة على أنها تتعلق بـ "الرئيس أردوغان"، حيث كانت هناك خطط لإسقاطه، خاصة خلال فترات الانتخابات، وتم عرض هذا الموضوع على العديد من أغلفة المجلات وعناوين الصحف. وفي بداية ولاية بايدن، تم استبعاد تركيا تحت ستار "إنشاء علاقات مؤسسية".
واليوم في اللحظات الأخيرة، وصلنا إلى النقطة التي أعلنت فيها الإدارة الأمريكية: "نحن في كامل التفاعل مع تركيا بشأن سوريا، نعمل معًا". هذه النقلة كانت نتيجة إدراكها لخطأ سياساتها السابقة. وقد انتهى الاجتماع بتعليق ساخر من وزير الخارجية فيدان لبلينكن: "نتمنى لكم النجاح في حياتكم القادمة".
والآن لدينا ملف سوريا وأربع سنوات من حكم ترامب.
الحقيقة الاستراتيجية هي أن بقاء إدارة بايدن في السلطة سيكون أفضل للعالم. قد يبدو هذا غريبًا، ولكن الحقيقة هي أنهم لم يدركوا التحولات التي تشهدها تركيا والمنطقة والعالم، ولم يفهموا الأهمية الاستراتيجية للشراكة بين هذه الأطراف الثلاثة.
لقد أخفقت الهيمنة الغربية في التعاطي مع ولادة النظام الاقتصادي والعالمي الجديد، حيث رأوا فيه تهديدًا لهم فقط. وحاولوا التمسك بالنظام الليبرالي والإداري المتداعي، واعتمدوا على الدفاع العسكري والقوة لإبقائه قائمًا. ولو استمروا في ذلك وظلوا في السلطة، لانهار هذا النظام عليهم كما انهار جدار برلين.
ترامب وإدارته يدركان الواقع بشكل أوضح، ويبدو أنهما سيلجآن إلى أساليب أكثر حدة وصرامة للتعامل مع هذا الوضع.
هذه الأساليب قد تكون أحيانًا مفيدة لتركيا وأحيانًا أخرى تسبب لها الإزعاج. ولكن ربط دول متوسطة الحجم مثل تركيا، التي تتمتع بنهج استثنائي ومحدث، بمحور سياسي معين سيكون أمرًا مستحيلًا.
إن الأحداث الجارية في سوريا قد أدت إلى خلق حالة من الهشاشة في المناطق التي تشهد تنافس القوى العالمية في إطار العالم متعدد الأقطاب. هذه هي النتيجة الجيوسياسية واضحة. وهذا يعني أن إيران وروسيا خسرتا. وهذا يتماشى مع المصالح الحيوية لتركيا خاصة فيما يتعلق بسوريا والعراق ومكافحة الإرهاب. لكن السياق العالمي مختلف تمامًا.
وبناء على هذا، فإن محاولة جر تركيا نحو المحور الأمريكي-الإسرائيلي في هذا السياق تعني تجاهل الدروس المستفادة خلال العقد الماضي. ماذا سيحدث إذًا لمنظمة الدول التركية؟ ماذا عن سياستكم تجاه القوقاز؟ وسياسة الوطن الأزرق؟ وعلاقاتكم مع إسرائيل؟ وما مصير الموقف التركي المستقل تمامًا والفريد بين الشرق والغرب، والقائم على شعار "العالم أكبر من خمسة"؟
تركيا لا تأبه لهذه الانتقادات والتحليلات السطحية. فإذا كانت المسألة تتعلق بسوريا، فإنها تتعاون مع الولايات المتحدة لأنها بحاجة إلى رفع العقوبات المفروضة على هذا البلد. وإذا كانت المسألة تتعلق بقبرص، فإنها تتعاون مع بريطانيا لأن عضوية القبارصة اليونانيين في الناتو وما إلى ذلك من التفاهات يجب أن تُقتل في مهدها. وإذا كانت المسألة تتعلق بالبحر الأسود، فإنها تتعاون مع روسيا للحفاظ على اتفاقية مونترو ومنع التدخل الأمريكي في المنطقة. كما تتعاون تركيا مع الصين ودول الخليج لتعزيز اقتصادها.
ولكن في الوقت نفسه، توحد إثيوبيا والصومال، وتنافس الولايات المتحدة وفرنسا والصين وروسيا في أفريقيا، وتقيم قواعد عسكرية، وتؤسس موانئ، وتوقع اتفاقيات للطاقة.
ومع ذلك، لا يعتمد أي من هذه التحركات على المنفعة البسيطة. تركيا لا تسمح لميدالياتها أن تصدأ في أي من هذه الميادين. لقد فشل بايدن، وسيفشل ترامب أيضًا، في عكس مسار التغيير العالمي لصالح الغرب. لذلك فإن الاستنتاجات العالمية المستخلصة من التطورات الظرفية لمحاولة ربط أنقرة بها وتقييدها لن تكون مجدية.