كريستين فونتنروز - المجلس الأطلسي الأمريكي (10 / 12 / 2024)
(مراجعة وتحرير: د. طالب عبد الجبار الدغيم)
اِستقبل العديد من السوريين بانتصار، واحتفاء تصاعد نفوذ "هيئة تحرير الشام" (HTS) والجماعات المسلحة التابعة لها، التي نجحت خلال الأسبوع الماضي في طرد عناصر نظام الأسد وحلفائهم الروس والإيرانيين من المدن والبلدات السورية. ومع ذلك، يجب أن يكون هذا الاحتفاء دعوة للتنبه بالنسبة للمعارضة السياسية المدنية السورية، حيال التأثير المتنامي لهيئة تحرير الشام في سورية ما بعد الأسد. فالقوى التي عارضت نظام الأسد أمامها الآن فرصة مفاجئة، وربما قصيرة الأجل لتشكيل مستقبل سورية، ولكنها قد تضيعها إذا ظلت منقسمة.
في أثناء إدارة ترامب الأولى، حيث كنت أعمل ضمن مجلس الأمن القومي، بذلنا جهوداً كبيرة بالتعاون مع دول في أوروبا والشرق الأوسط لجمع المعارضة السياسية السورية للتباحث بشأن رؤية جديدة لسورية، وتهيئة الظروف لتنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي 2254، الذي يعارضه الديكتاتور الهارب بشار الأسد بشدة. وكان العائق الأكبر أمام صياغة مستقبل لسورية قبل خمس سنوات قد زال، ولكنه أفسح المجال لعائق آخر لا يقل صعوبة: قائد عسكري لمنظمة إرهابية خاضعة لعقوبات دولية، ولديه رؤيته الغامضة لمستقبل البلاد.
عندما أُجبر الأسد على مغادرة سورية في 8 ديسمبر، جاء ذلك نتيجة المكاسب الإقليمية والشعبية التي حققتها "هيئة تحرير الشام". وبالتالي، فإن أي آمال لدى الحكومات الأجنبية في تشكيل حكومة انتقالية بعد الأسد تتألف فقط من جماعات المعارضة السياسية المدنية، مع استثناء "هيئة تحرير الشام"، تحتاج إلى إعادة النظر. فالهيئة، التي صنفتها كل من الولايات المتحدة الأمريكية والأمم المتحدة كمنظمة إرهابية، تحظى بشعبية كبيرة في سورية حاليًا لدرجة تجعلها ترحب بإجراء انتخابات حرة ونزيهة. ومن شأن الانتخابات أن تُضفي شرعية على إيديولوجيتها. وإن هذا الخوف المنطقي من أن ترى منظمة إرهابية تستعيد السيطرة على سورية، فهو يدفع البعض، مثل وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، إلى اقتراح أن دعم نظام الأسد ضد مقاتلي "هيئة تحرير الشام" يمثل الخيار الأقل ضرراً.
ولقد تعلمت الولايات المتحدة الأمريكية دروساً صعبة من تجاربها في العراق وأفغانستان، وخلصت إلى أن نجاح جهود إعادة الإعمار يتطلب الاِلتزام بعدة مبادئ أساسية:
1. اِعتماد إستراتيجية موحدة لإعادة الإعمار.
2. اِلتزام جميع المانحين بتقديم المساعدات مشروطة بتحقيق معايير محددة.
3. فرض عواقب على أي انحراف عن الاستراتيجية من قبل الجهات المانحة أو المستفيدة.
4. التحلي بالواقعية وعدم الانخداع بطبيعة الأطراف الفاعلة على الأرض.
ضرورة استراتيجية موحدة للتعامل مع هيئة تحرير الشام ومستقبل سورية
في النقطة الرابعة، يمكن الاعتراف بانتصار هيئة تحرير الشام (HTS) وشعبيتها الحالية دون الانجرار إلى قبول صورتها الذاتية التي تروجها. فالتصريحات الصادرة عن هيئة تحرير الشام بشأن احترام الأقليات لا ينبغي تفسيرها على أنها مؤشر على الاعتدال في إيديولوجية الجماعة. وإن هذه التصريحات هي انعكاس جزئي، وغير مكتمل لآيات قرآنية ذات صلة (مثل سورة البقرة: 2:62)، والعهود التاريخية التي أبرمها النبي محمد ﷺ مع المجتمعات غير المسلمة، وتوجيهاته للمسلمين وقادتهم الزمانيين بحماية أتباع الديانات الأخرى الذين يعيشون بسلام مع جيرانهم المسلمين. ومع ذلك، لا تظهر هيئة تحرير الشام حتى الآن أي إشارات إلى اعتدال يقترب من المبادئ الأساسية التي تحدد "الإسلام الأصولي".
تشابه هيئة تحرير الشام في هذا السياق وعود "حملة انتخابية" شبيهة بتلك التي أطلقتها طالبان لحماية حقوق المرأة والأقليات، حيث هدفت إلى تهدئة مخاوف المجتمع الدولي من أيديولوجيتها أثناء استعادتها السلطة في أفغانستان عام 2021، قبل أن تنتهك تلك الوعود بشكل صارخ في ما بعد. ففي أغسطس 2021، أعلن متحدث باسم طالبان أن النساء "يمكنهن الحصول على التعليم من المرحلة الابتدائية إلى التعليم العالي"، مضيفاً أن هذه السياسة أُعلن عنها في مؤتمرات دولية. ولكن منذ ذلك الحين، أصدرت طالبان قرارات تمنع النساء والفتيات من التعليم الثانوي والجامعي.
كما ينبغي أيضاً أخذ الدروس من اليمن، حيث أدت زيادة الدعم الشعبي للحوثيين نتيجة تصرفاتهم في البحر الأحمر، بزعم الدفاع عن غزة، إلى تعزيز مواقفهم وتقليل استعدادهم لتقديم تنازلات في المفاوضات السياسية.
وكما نتذكر مشاهد الاحتفالات في شوارع بيروت في أكتوبر 2019، حيث رقص المحتجون المطالبون بإسقاط الحكومة اللبنانية، بينما كان حزب الله يواصل التخطيط والتشغيل. وبالنتيجة الصافية كانت عدم حدوث أي تغيير ملموس في لبنان. التفاؤل وحده ليس بديلاً عن التخطيط.
وفي سياق مشابه، أصدر الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب تصريحاً على وسائل التواصل الاجتماعي يشير إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية يجب ألا تتدخل في سورية. وبالتالي، من الواضح أن السبيل الوحيد لعودة المعارضة السياسية المدنية للأسد إلى الواجهة، والحصول على دعم الإدارة الأمريكية المقبلة، يتمثل في تقديم خطة عملية وموحدة بسرعة للحكومة الانتقالية، وإجراء الانتخابات، وإدارة الحكم المستقبلي. وإنه يجب أن تتيح هذه الخطة مساحة لمشاركة هيئة تحرير الشام في الانتخابات إذا تحولت إلى حزب سياسي غير مسلح وغير عسكري. وكما ينبغي أن تتيح لأعضاء الهيئة إمكانية تولي أدوار قيادية في الوزارات والجيش.
ومع ذلك، سيكون من الصعب إقناع هيئة تحرير الشام المنتصرة، بقبول مثل هذه الشروط، حيث من المرجح أن ترفض المعارضة المدنية بعبارة "بأي جيش ستفرضون ذلك؟"، وتسعى إلى اِتباع نهج شبيه بطالبان. ولضمان نجاح هذه الخطة، قد يكون من الضروري الحصول على دعم الولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي، والدول العربية الرئيسية، وتركيا، وروسيا، والصين، لضمان عدم اِحتكار هيئة تحرير الشام للقوة العسكرية.
والخلاصة بالنسبة للمعارضة السياسية السورية: يجب أن تكونوا مستعدين للتحدث بصوت واحد أمام المجتمع الدولي. فإما أن تتحدوا أو أن تسهم اِنقساماتكم في تعزيز دعم هيئة تحرير الشام، مما يؤدي مباشرة إلى اِستسلامكم لحكم تقوده قوى متطرفة.
خطة لإعادة إعمار سورية
مع رحيل الأسد، بات لدى المجتمع الدولي نفوذ جديد يمكن استغلاله في عملية إعادة إعمار سورية. لن تتمكن أي جهة من إدارة البلاد بشكل فعال دون الاعتماد شبه الكامل على المساعدات الأجنبية. استخدام هذا النفوذ لضمان نجاح إعادة الإعمار في سورية بشكل أفضل مما حدث في العراق أو أفغانستان يجب أن يكون أولوية قصوى.
دروس من إخفاقات الماضي
في مراحل ما بعد النزاع، غالباً ما يرتكب المانحون أخطاءً فادحة تؤدي إلى تعقيد الأمور:
· تنفيذ خطط إعادة إعمار متباينة وغير متناسقة.
· دعم أطراف سياسية متنافسة، ما يعطل عملية اتخاذ القرار.
· تمويل مشروعات مكررة وترك فجوات حيوية دون معالجة.
· عدم ربط التمويل بمعايير أداء واضحة، مما يتيح للجهات الفاعلة السيئة استغلال الموارد وتعزيز نفوذها.
التجارب في العراق وأفغانستان والصومال خلال العقدين الماضيين تقدم دروساً مؤلمة، ينبغي تفادي تكرارها في سورية.
اِستراتيجية موحدة لإعادة الإعمار
· وضع استراتيجية واحدة مشتركة: يجب على المانحين تطوير خطة إعادة إعمار موحدة لسورية. بعد ذلك، يمكن لكل دولة مانحة تبني أجزاء من هذه الاستراتيجية بما يتوافق مع قوانينها وسياساتها المحلية. على سبيل المثال، لا تستطيع الولايات المتحدة تقديم دعم مادي لكيانات مصنفة إرهابية، وهو ما يمنعها من تمويل مشاريع تخدم أعضاء هيئة تحرير الشام.
· ربط التمويل بمعايير أداء: ينبغي أن يتفق جميع المانحين على ربط تدفق التمويل والاعتراف الرسمي بأداء الحكومة السورية الجديدة. إذا لم يتم الوفاء بالتعهدات، يتم وقف التمويل وسحب الاعتراف الرسمي.
· معاقبة المخالفين: أيّ دولة مانحة تستمر في تمويل حكومة سورية جديدة (انتقالية أو منتخبة) تنتهك تعهداتها يجب أن تواجه عقوبات.
مواجهة التمويل المنافس
من المتوقع أن تستمر دول مثل روسيا وإيران والصين في تقديم الدعم للحكومة الجديدة، دون الالتزام بالاستراتيجية المشتركة. ولكن هذا الدعم سيكون ضعيفاً مقارنة بما يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة، ودول الخليج، وأوروبا. جدير بالذكر أن الإنفاق الصيني على المنح الأجنبية يعادل تقريباً عُشر ما تنفقه الولايات المتحدة.
إدارة إعادة الإعمار
ينبغي إنشاء هيئة لإدارة أموال إعادة الإعمار، برئاسة مفوض يتم انتخابه من قبل الدول المانحة. يعمل المفوض كمدير تنفيذي، ويرأس أيضاً مجلساً استشارياً يضم ممثلين من مختلف مكونات المجتمع السوري. يناقش هذا المجلس أولويات المشاريع ويقدم توصيات للمفوض، مع الاحتفاظ بحق المانحين في اتخاذ القرارات النهائية.
قيادة بدافع المسؤولية
افتقرت الولايات المتحدة إلى استراتيجية واضحة تجاه سورية خلال السنوات الأربع الماضية، وهو ما أزعج الدول المتأثرة بالصراع. ومع ذلك، يُطلب من الولايات المتحدة باستمرار قيادة مثل هذه الجهود، رغم انخفاض اهتمام ناخبيها بالتدخلات الخارجية وإعادة بناء الدول، نظراً للإخفاقات الأخيرة مقارنة بنجاحات القرن العشرين.
دروس مستفادة: ينبغي لصانعي القرار في الولايات المتحدة الاستفادة من دروس العراق وأفغانستان واليمن، لا سيما فيما يتعلق بمخاطر تباين سياسات المانحين وصعوبة التفاوض مع الجماعات المسلحة.
التطرف لا يعتدل: لا توجد أمثلة حديثة في الشرق الأوسط لجماعات إرهابية اعتدلت أيديولوجياً بعد توليها السلطة.
الدبلوماسية أولاً
قد تواجه هذه المبادئ اِعتراضات أولية من الشركاء الدوليين. وهنا يكمن دور الدبلوماسية في إقناع الأطراف بأهمية إستراتيجية موحدة. وفي الوقت نفسه، ينبغي للولايات المتحدة أن ترفض قيادة أو المشاركة في أي جهود إعادة إعمار لا تلتزم بهذه الأسس.
الخلاصة
إن ضمان نجاح إعادة إعمار سورية، يجب وضع خطة شاملة وموحدة، مع التزام صارم من المجتمع الدولي وربط التمويل بمسؤوليات محددة. قيادة هذه الجهود ليست فقط ضرورة للمجتمع الدولي، لكنها تخدم أيضاً المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة.
رابط المقال الأصلي:
A blueprint for bringing about a new Syria - Atlantic Council
[1] كيرستن فونتنروز هي زميلة أولى غير مقيمة في مبادرة سكوكروفت لأمن الشرق الأوسط في برامج الشرق الأوسط التابعة للمجلس الأطلسي. وشغلت سابقاً منصب المدير الأول لدول الخليج في مجلس الأمن القومي، حيث قادت تطوير سياسة الولايات المتحدة الأمريكية تجاه دول مجلس التعاون الخليجي واليمن ومصر والأردن.