ترك برس
أكد الباحث والأكاديمي المصري عصام عبد الشافي، ضرورة ألا تتحرك تركيا من باب تعظيم مصالحها الاستراتيجية فقط في الملف السوري، بل أيضا من باب تعظيم المصالح الاستراتيجية لسوريا.
وقال عبد الشافي في مقال بموقع الجزيرة مباشر إن تركيا ترتبط بسوريا ارتباط استراتيجيًّا، يمكن وصفه بأنه وجودي في ظل تعدد الأبعاد التي تقوم عليها تفاعلات الدولتين، مثل التاريخ المشترك، والحدود المشتركة، برًّا وبحرًا، والتداخل العرقي والسكاني عبر المكونات الكردية والتركمانية والعلوية بين الدولتين.
كما ترتبط الدولتان استراتيجيًّا عبر نهر الفرات الذي ينبع من هضبة الأناضول التركية، ويمر في الأراضي السورية ويعتبر أحد أهم مصادر المياه في البلاد، ثم يمر بالأراضي العراقية ويصب في منطقة شط العرب على الخليج العربي. وفقا للكاتب.
وأوضح أنه مع قيام الثورة السورية في مارس/آذار 2011، تعززت التفاعلات الاستراتيجية بين الدولتين عبر بوابة اللاجئين السوريين الذين تجاوز عددهم في بعض السنوات أربعة ملايين لاجئ على الأراضي التركية، وحصل بعضهم على الجنسية التركية خلال الفترة الممتدة من 2011 حتى 2024.
كما تعزز الحضور التركي في الملف السوري عبر احتضان تركيا للعديد من تيارات ورموز المعارضة السورية لنظام الأسد، وما وفرته من دعم سياسي وإعلامي ولوجيستي حتى نجحت في تحرير عدة مناطق في الشمال السوري، وإعادة توطين ملايين السوريين من النازحين واللاجئين فيها، بعد مواجهات عسكرية مع قوات النظام السوري المدعومة إيرانيًّا وروسيًّا منذ 2015. يقول الكاتب.
وتابع المقال:
في السابع والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2024، انطلقت ثلاث عمليات عسكرية ولوجستية لإسقاط نظام بشار الأسد في سوريا، الأولى عملية “ردع العدوان” وقادتها قوات هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها، والثانية عملية “فجر الحرية” وقادها الجيش الوطني السوري والفصائل المتحالفة معه، والثالثة عملية “أمل العائدين” وقادتها مؤسسة الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، وهذه العمليات الثلاث ما كان لها أن تنجح دون الدعم اللوجيستي التركي.
استنادًا لكون تركيا دولة الجوار الجغرافي المباشر، الذي يوفر العمق الاستراتيجي والحاضن الإقليمي، والممر الداعم لهذه الهيئات والفصائل، بغض النظر عن معدلات التوافق السياسي والأمني والعسكري بين تركيا وهذه الأطراف، وبغض النظر كذلك عن وجود أطراف إقليمية ودولية أخرى متعاونة مع مكونات المعارضة السورية، لأنه في الأخير، يمكن أن تواجه جهود هذه الأطراف التعثر إذا تعارضت مع السياسات والمصالح التركية المباشرة.
ومن هنا جاء انطلاق العمليات الثلاث ليكون التحرك الحاسم لإسقاط بشار الأسد وهروبه خارج البلاد، وإعلان تحرير العاصمة السورية دمشق ودخول قوات المعارضة قصر بشار في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 2024، وبدء مرحلة جديدة ليس فقط في تاريخ سوريا، ولكن في تاريخ المنطقة العربية والشرق الأوسط.
يمكن القول إن تركيا أحد أهم الرابحين، إن لم تكن الرابح الأكبر من سقوط نظام بشار الأسد، وذلك أمام تعدد المكاسب التي تحققت من هذا السقوط، من ناحية وأمام تعدد الفرص المتاحة التي يمكن الاستثمار فيها من ناحية ثانية.
أول هذه المكاسب، التخفف من عبء ملف اللاجئين السوريين الذي تم استخدامه ورقة للمنافسة والمساومة السياسية بين الأحزاب والتيارات السورية سواء في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية أو في انتخابات البلديات، وما ترتب على ذلك من صدامات وأحداث عنصرية على حساب السوريين، تنامت حدتها وتصاعدت موجتها، بدفع من الأحزاب اليمينية وبعض التيارات القومية في الداخل التركي، أما بعد سقوط بشار، واستقرار الأوضاع الأمنية في سوريا، فستكون الفرصة مواتية لعودة طوعية وآمنة لقطاعات واسعة من السوريين إلى أرضهم.
ثاني هذه المكاسب، تعزيز الحضور السياسي التركي في مستقبل سوريا، لأن تيارات المعارضة السياسية والعسكرية والمدنية التي قادت عمليات إسقاط بشار، ترتبط بدرجة كبيرة بتركيا، نظرًا لأن معظم رموزها ودوائر حركتها كانت تتم عبر تركيا، أو بتنسيق مباشر أو غير مباشر معها، وهو ما يوفر الفرصة لتركيا للبناء على هذه التيارات ومحاولة الاستثمار فيها خلال السنوات القادمة.
ثالث هذه الفرص، تعزيز الحضور الاقتصادي التركي وخاصة في عمليات إعادة الإعمار، وهو ما بدأت مؤشراته تظهر منذ اليوم الأول في مرحلة ما بعد الأسد، حيث كانت المؤسسات والشركات الخدمية التركية الطرف الأكثر حضورًا وتأثيرًا في التعاون مع الدفاع المدني السوري، ومع الإدارة الجديدة في سوريا، سواء في توفير السلع الاستهلاكية، أو تعزيز الأمن، أو تمهيد الطرق والمواصلات والاتصالات، وكل ما يرتبط بمعاش الناس وحياتهم اليومية التي ينعكس القصور فيها سلبًا على الإدارة الجديدة.
رابع هذه الفرص، تعزيز الحضور العسكري التركي في مستقبل سوريا، عبر بوابة إعادة بناء الأجهزة الأمنية والعسكرية، من ناحية، ومواجهة الحركات والتيارات الانفصالية وخاصة الكردية من ناحية ثانية، انطلاقًا من أن مثل هذه التيارات لا تشكل فقط تهديدًا لوحدة سوريا، لكنها تشكل أيضًا تهديدًا لوحدة تركيا، وكذلك الدور التركي في تسليح الجيش السوري الجديد، عبر شركاتها ومؤسساتها العسكرية، التي كان لها حضورها وتأثيرها في الإعداد والتجهيز قبل سقوط بشار الأسد.
خامس هذه الفرص، تعزيز التعاون المشترك بين الدولتين في ملف غاز شرق المتوسط، عبر ترسيم الحدود البحرية والتنقيب المشترك عن الغاز في المياه الإقليمية والاقتصادية للدولتين، وهو أحد أهم الملفات التي تشكل أولويات في السياسة التركية خلال السنوات العشر الماضية في ظل أزمة الطاقة التي تعاني منها واعتمادها على الاستيراد لسد نحو 95% من احتياجاتها من الغاز الطبيعي.
في مواجهة خرائط الفرص، تتعدد خرائط التهديدات التي تواجه الدور التركي في سوريا ما بعد الأسد، وأول هذه التهديدات ينبع من الداخل التركي ويرتبط بدرجة أساسية بمستقبل النظام السياسي التركي في مرحلة ما بعد أردوغان وتوجهاته السياسية، ومدى حرصه على تعزيز مبدأ “التوجه جنوبًا” الذي تنباه أردوغان منذ 2002 وحتى الآن، وليس التوجه غربًا كما كان قبل 2002، وما يمكن أن يحدث لو حدث تغيير سياسي في تركيا.
وثاني هذه التحديات، يرتبط بالمتغير الكردي، حيث تشكل البقعة الجغرافية الممتدة على الحدود المشتركة بين تركيا وإيران والعراق وسوريا منطقة التركز الأساسية للأكراد، وبينهم توجد بعض التيارات الساعية للانفصال وتكوين دولة كردية، وهو ما يشكل تهديدًا استراتيجيًّا ليس فقط لوحدة تركيا ولكن لوحدة كل من سوريا والعراق وإيران، ويزيد من خطورة هذا المتغير الأدوار الخارجية، الإقليمية والدولية، الداعمة لهذه الحركات الانفصالية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة وألمانيا وفرنسا وإسرائيل وبعض الأطراف العربية، وتوفيرها الدعم السياسي والمالي والإعلامي والعسكري واللوجستي لهذه الفصائل في شرق سوريا، كما حدث من قبل في شمال العراق بعد سقوط نظام صدام حسين عام 2003.
ثالث هذه التحديات، المتغير الأمريكي، فعلى الرغم من تصنيف الولايات المتحدة على أنها حليف استراتيجي لتركيا بحكم عضوية الدولتين في حلف الناتو، وبحكم وجود عدد من القواعد العسكرية الأمريكية على الأراضي التركية، وبحكم الشراكة الاستراتيجية في مواجهة الاتحاد السوفيتي في مرحلة الحرب الباردة، وفي احتواء التمدد الروسي في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.
على الرغم من ذلك كله فإن هناك تناقض كبير في العديد من الملفات والسياسات بين نظام أردوغان والإدارات الأمريكية المتعاقبة منذ 2002 وحتى الآن، للدرجة التي تم فيها توجيه الاتهام رسميًّا للولايات المتحدة بالوقوف خلف محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام 2016، وكذلك الدور الأمريكي في دعم قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والدعم الأمريكي اللامحدود لدولة الاحتلال الإسرائيلي على حساب كل الشركاء في الشرق الأوسط، وكذلك التوصيف الأمريكي لمشكلة الأرمن 1915 على أنها إبادة جماعية، وذلك في بيان أصدره الرئيس الأمريكي بايدن في 24 إبريل/نيسان 2021.
رابع هذه التحديات، المتغير الروسي الإيراني، حيث كانت الدولتان أهم حليفين لنظام بشار الأسد، وهما الآن أكبر الخاسرين بسقوطه، وليس مستبعدًا أن تتبنيا سياسات تهدد الأمن والاستقرار في سوريا الجديدة، بل وضد المصالح والوجود التركي فيها.
خامس هذه التحديات، المتغير الإسرائيلي، حيث استغلت إسرائيل مرحلة الانتقال السياسي وسقوط بشار واستهدفت البنية التحتية والقدرات العسكرية للجيش السوري، كما تمددت على الأراضي السورية وتجاوزت المنطقة المنزوعة السلاح المتفق عليها في اتفاق فض الاشتباك بين سوريا وإسرائيل برعاية أممية عام 1974، ويتعاظم الخطر الإسرائيلي في ظل التنسيق المشترك لدولة الاحتلال مع قوات سوريا الديمقراطية الانفصالية الكردية في شرق سوريا، ومحاولات دولة الكيان استخدام ورقة الدروز في تصدير الأزمات للإدارة الجديدة في سوريا.
وسادس هذه التحديات، المتغير العربي، والمتمثل في وجود عدد من النظم السياسية العربية الرافضة للوجود التركي في سوريا، سواء كان ذلك بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر مثل النظام المصري والنظام الإماراتي، اللذين يعتبران سقوط بشار الأسد كأنه هزيمة مباشرة لهما؛ لذلك جاءت مواقفهما سلبية اتجاه التحول الجديد في سوريا.
وسابع هذه التحديات، المتغير الداخلي السوري، المتمثل في تحفّظ قد يرقى إلى رفض بعض التيارات السياسية السورية للدور التركي في سوريا الجديدة، حيث إن هناك فريقًا من هذه التيارات كان يعيش في تركيا ويتحرك من خلالها، لكنه كان ساخطًا على ما اعتبره قصورًا في إدارتها للملف، وسماحها لغيرها من الأطراف بالتمدد على حساب دورها، بجانب أن هناك فريقًا آخر يرتبط سياسيًّا بعدد من الأطراف الأوروبية مثل ألمانيا وفرنسا، ويرى في تركيا نموذجًا تنافسيًّا إن لم يكن صراعيًّا.
والأهم والأخطر من هذين الفريقين في الداخل السوري، ما يمكن تسميته بقوى الثورة المضادة وبقايا نظام بشار الأسد المدعومين من بعض الأطراف الإقليمية، الذين يعملون على إجهاض التجربة منذ اليوم الأول، بنفس أدوات الثورات المضادة التي شهدتها مصر وتونس وليبيا واليمن بعد 2011.
وأمام هذه الدرجة من التشابك والتعقيد، وإذا كانت تركيا حريصة على تعزيز حضورها ودورها الاستراتيجي في سوريا الجديدة، فالمدخل الأهم من وجهة نظري هو مدخل تعظيم المصالح المشتركة، بمعنى أن لا تتحرك تركيا من باب تعظيم مصالحها الاستراتيجية فقط، ولكن من باب تعظيم المصالح الاستراتيجية لسوريا أيضًا، من منظور أن أمن واستقرار سوريا من أمن واستقرار تركيا، وأمن واستقرار تركيا من أمن واستقرار سوريا.
هذا في الوقت الذي يجب أن تحرص فيه تركيا على تعزيز الشراكات الاستراتيجية والمصالح المشتركة كذلك مع الحلفاء الأساسيين الذين كان لهم دور واضح ومؤثر في عملية تحرير سوريا، وفي السعي نحو إعادة إعمارها بعد سقوط بشار.