استفزاز ترامب وتهجير أصحاب الأرض

ترك برس

استفزاز ترامب وتهجير أصحاب الأرض

  • منذ 22 ساعة
  • العراق في العالم
حجم الخط:
د. محمد الصغير - الجزيرة مباشر
حب الأوطان والتشبث بها والحنين إليها غريزة مركوزة في نفوس أصحاب الفطر السليمة، لذا قال الإمام أبو حامد الغزاليّ: “والبشر يألَفُون أرضَهم على ما بها، ولو كانت قفرًا مستوحَشًا، وحبُّ الوطن غريزةٌ متأصِّلة في النفوس، تجعل الإنسانَ يستريح إلى البقاء فيه، ويحنُّ إليه إذا غاب عنه، ويدافع عنه إذا هُوجِم، ويَغضب له إذا انتقص”.
وأعظم ما يروى في ذلك قول رسول الله ﷺ وهو مهاجر من مكة المكرمة “واللَّهِ إنِّي أعلمُ أنَّكِ خَيرُ أرضِ اللَّهِ وأحبُّها إلى اللَّهِ ولَولا أنَّ أهلَكِ أخرَجوني مِنكِ ما خرَجتُ”.
وعبر أحمد شوقي عن ذلك بقوله:
وللأوطانِ في دمِ كلِّ حرٍّ * يدٌ سلفَتْ ودَينٌ مُستحقُّ.
الخروج من الأرض
وفي معرض الابتلاء والاختبار جعل الله تعالى الخروج من الأرض في المرتبة الثانية بعد قتل النفس: {وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا}. (النساء: 66).
وفي قصة بني إسرائيل مع الحرب والقتال، قالوا إن أولى ما يقاتل المرء من أجله، هو أن يُخرج من أهله وأرضه: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ مُوسَىٰ إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۖ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِن كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا ۖ قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا ۖ }. (البقرة: 246).
لذا قامت خطط الكفر على تبني فكرة التهجير من الأرض في كل عصر، والإخراج من الوطن هو الحل في مواجهة دعوات المصلحين، ورسالة الأنبياء والمرسلين: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا ۖ فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ۚ ذَٰلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)}. (سورة إبراهيم).
وكان ردّ قوم لوط على دعوته للتطهر والخروج من مستنقع الرذيلة: {فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ ۖ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَرًا ۖ فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنذَرِينَ (58)}. (سورة النمل).
وكذلك كان الحال مع فرعون وأهل الإيمان من بني إسرائيل {فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعًا}. (الإسراء: 103).
نهاية الصراع
والمتتبع للآيات السابقة يجد أن بلوغ الطغيان درجة إخراج المخالفين له واستفزازهم من الأرض، يعد من علامات نهاية الصراع، وبداية زوال جولة الباطل وتقويض دولته، وبداية لطف العناية الإلهية في إنقاذ المستضعفين من بطش القوم المجرمين.
وفي الصفحة الأخيرة من سجل النبوات وختام الرسالات، استخدم كفار قريش الطريقة نفسها، واعتمدوا منهج أسلافهم المهلكين: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ ۚ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ۖ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ}. (الأنفال: 30).
هذه خلاصة الشورى حول قضية رسول الله ﷺ كما استقر عليها أهل مكة، واعتمدوا خطة قتل النبي ﷺ، وتجمعوا حول بيته، فنجاه الله من بين أظهرهم، ولو تمكنوا منه وباشروا إخراجه لعمهم الله بعقابه، لكن قرار الخروج كان بوحي من الله والهجرة كانت بإذن الرحمن الرحيم: {وَإِن كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ۖ وَإِذًا لَّا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا}. (الإسراء: 76).
ومع ذلك كله فقد روي عن رسول الله ﷺ أنه قُبيل الخروج من مكة كان واقفًا على الحزوَرةِ فقالَ: “واللَّهِ إنَّكِ لخيرُ أرضِ اللَّهِ، وأحبُّ أرضِ اللَّهِ إلى اللَّهِ، ولولا أنِّي أُخرِجتُ منكِ ما خرجتُ”. (صحيح الترمذي).
والتعبير بمصطلح الاستفزاز ذكرته سورة الإسراء في الحديث عن بني إسرائيل، وفي الحديث عن رسول الله ﷺ مع يهود المدينة، والاستفزاز أصله الإزعاج وهو أحد أسلحة إبليس.
{وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُم بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ ۚ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا}. (الإسراء: 64).
واستُخدم في معنى الإخراج من الأرض المقترن بالاستئصال والتهجير، وهو عين ما يطالب به الآن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي بدأ ولايته الثانية بخطة عقارية بحتة، في كل الملفات الشائكة، سواء مع كندا أو المكسيك والآن مع غزة وفلسطين، وكأنه يرتب أمر مجمعاته السكنية أو أبراجه التجارية، وأعلن بجرة قلم، أو بتصريح للعلن، انتهاء سراب السلام القائم على حل الدولتين، الذي كان يحلم به ويردده زعماء المنطقة، ولا أظن أن أحدا منهم يملك القدرة على التذكير بالمفاوضات والمؤتمرات التي ذهبت فيها أغلب الأعمار في انتظار هذا الحل، بل ظهرت أطماع “نتن ياهو” في تهجير أهل فلسطين جميعا إلى دول عربية مجاورة، فأجابه ترامب وأنا بذلك زعيم، ونسي الزعيم وضيفه اللئيم أن غيره كان أشطر، وأن خطة التهجير ليس هو أول من افترعها، فقد حاول قبله كثيرون وفشلوا كما سيفشل هو بإذن الله، لأن أهل غزة بعد الحرب التي لم تبق لهم حجرا على حجر وأهلكت البشر والشجر، لم يبق لهم إلا الاحتفاظ بالأرض، وإلا فما الذي جعلهم يقدمون أكثر من خمسين ألف شهيد من أبنائهم، وأضعاف هذا العدد من الجرحى، ويصبرون على النزوح والقصف، وفرض سياسة الجوع والخوف، طوال خمسة عشر شهرا، ثم يتنازلون عن كل ذلك إلى شتات جديد بين عدة دول!
الأرض والعرض
إذا كان ترامب يسعى لضم كندا إلى ولايات أمريكا الخمسين، فلماذا لا يأخذ الكيان اللقيط ويتبناه، ويكمل به عدة الولايات المتحدة.
إن العقلية الغربية بصفة عامة، وسماسرة العقارات وبناة المنتجعات بصفة خاصة، لا يدركون أنه لا فرق في لغة العرب وعقيدتهم بين الأرض والعرض إلا في حرف واحد، والمعنى متحد في وجوب الحفاظ عليه، وتقديم النفس والنفيس في الدفاع عنه، لكن الطبع غلاب، والطمع يعمي ويصم عن أخذ العظة والعبرة من مرات الفشل السابقة، والهزائم المتلاحقة التي بدأت في الصومال والعراق وتوجت في أفغانستان، وأن القضاء على الهنود الحمر -أهل البلد الأصليين- فكرة غير قابلة للتطبيق في غزة، لأن أهلها يرون المخيمات أكرم من المنتجعات، ويرون الشهادة في سبيل الدفاع عن الأرض والعرض لا تقل عن الدفاع عن المقدسات، وأنه لا هجرة إلا إلى القدس، ولم تصبح حماس مجموعة أشخاص، وإنما هي روح المقاومة التي تسري في عروق الأحرار، ومن حمق القيادة في حرب الإبادة، أنها حولت شعب غزة من حاضنة شعبية للمقاومة، إلى شعب مقاوم، وانتقلت حماس من دائرة الحركة إلى رحابة الفكرة.
ولو نظرنا إلى الصورة بشكل أوسع، فإني أرى القرارات العشوائية، المخلوطة بالنزعة التجارية، والتعامل مع بقية دول العالم بأنهم أجزاء من الرعية، هي قمة العلو في الأرض، وبداية النزول عن القمة، وتفكك الولايات المتحدة إلى دول متجاورة أو متصارعة، وسيستقبل المجتمع الدولي عددا كبيرا من الدول الجديدة، في مقدمتها دولة فلسطين بحدودها التاريخية وقدسها الشريف.


عرض مصدر الخبر



تطبيق موسوعة الرافدين




>