د. سمير صالحة - تلفزيون سوريا
المتبقي بيد طهران للرد على السياسة التركية التي تواصل دكّ تحصينات النفوذ والتمدد الإيراني في سوريا، هو تسهيل مهمة إسرائيل لمواجهة أنقرة هناك نيابة عن الطرفين.
بدلًا من تقليد موسكو، التي تمضي في فتح نافذة حوار مع القيادة السورية الجديدة رغم كل الخلافات والتباعد، تتمسك القيادة الإيرانية بنبرة التحدي والتصعيد والتهديد عند اللزوم، ثم تعبّد الطريق أمام المخطط الإسرائيلي الناشط في جنوب سوريا، والراغب في التمدد نحو شرق الفرات، والاقتراب من الحدود الشمالية لمواجهة الشراكة التركية-السورية الصاعدة في الإقليم.
لا أحد يتحدث عن تنسيق إيراني-إسرائيلي مباشر طبعًا، بل يدور الحديث عن تخادم متبادل بينهما بسبب مقتضيات المصالح ووجودهما في خندق واحد منذ الثامن من كانون الأول المنصرم، مع سقوط نظام بشار الأسد، حليف طهران وفرصة تل أبيب في المنطقة.
نجاح أنقرة في قطع الطريق على محاولة تسهيل مهمة تل أبيب في ملء الفراغ الإيراني في سوريا هو ما يغضب الطرفين ويدفعهما إلى تحريك أكثر من ورقة نفوذ في مواجهة أنقرة ودمشق. لا أحد يستغرب إذا ما ذهبت التحليلات باتجاه وقوف طهران وراء عرقلة اللقاءات السورية-العراقية، التي لن تدوم طويلًا، لأن العواصم العربية التي تريد استرداد سوريا إلى الحضن العربي لن تسمح بذلك. ولا أحد يستبعد أن تدعم طهران حركات تمرد وإشعال فتن في الداخل السوري، فهي قادرة على ذلك بسبب خيوطها وخلاياها هناك. لكن السؤال هو: ما الذي ستجنيه من خلال ذلك غير المزيد من الابتعاد عن سوريا الجديدة وتفاقم عزلتها الإقليمية، التي قد تقودها إلى الانفتاح على إسرائيل كمنفذ وحيد متبقٍّ لها؟
ناورت إيران لسنوات على خط دمشق–السليمانية في مواجهة أنقرة وهي تلعب بورقة الملف الكردي. رسالة أوجلان، التي فتحت أنقرة الطريق أمامها، قلبت حساباتها رأسًا على عقب. تريد الاستقواء بالتصعيد الإسرائيلي على خط جنوب سوريا وشرق الفرات لتصفية الحسابات مع القيادات التركية والسورية. ابتسامة تركية واحدة في اتجاه تل أبيب، بطلب من التفاهم الأميركي-الروسي القادم، ستحمل لطهران خيبة أمل أكبر في سوريا والمنطقة.
هدف أردوغان، من خلال تسهيل الحوار مع أوجلان وحزب "ديم"، هو تعزيز صفوف الجبهة الداخلية في مواجهة الأخطار الإقليمية المحدقة، وسحب ورقة حزب العمال من يد قوى إقليمية، وإسقاط مشروع البعض في شرق الفرات. لكن المشكلة أن أطرافًا إقليمية ودولية عديدة تشعر أن مصالحها تضررت من الحراك التركي الأخير، وأن عليها توحيد الصفوف في مواجهة خطة السلام التركي-الكردي في الإقليم، التي ستغير خارطة التحالفات والتوازنات على أكثر من جبهة.
تفاوض أنقرة على جبهتين: أوجلان وحزب "ديم". من يدعمها في الحراك هو "تحالف الجمهور"، وأربيل، والعديد من العواصم الإقليمية والعربية. في المواجهة، تجلس القيادات الإسرائيلية والإيرانية المتضررة. لذلك، فاجأ الحراك التركي الأخير على خط الملف الكردي، بشقيه المحلي والإقليمي، الكثيرين. لكن أكثر المتضررين من هذه الخطوة هما إيران وإسرائيل. من هنا، على أنقرة أن ترفع من مستوى احتياطاتها تحسبًا لردٍّ محتمل من قبلهما عبر تحريك أكثر من جبهة أو مجموعات متضررة مما يجري. فالهدف هنا أبعد من إجلاس "قسد" في حضن إسرائيل بدعم أميركي وضوء أخضر إيراني.
إعلان قائد "قوات سوريا الديمقراطية" مظلوم عبدي أن دعوة أوجلان لحلّ حزب العمال وإلقاء السلاح تتعلق بالحزب ولا علاقة لها بسوريا، ووصف "قسد" لهذه الدعوة بأنها نهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة، كما أن ترجمة قيادات قنديل لفحوى رسالة أوجلان على طريقتها الخاصة، كل ذلك يعزّز سيناريو ولادة حركة تمرد وعصيان كردي، على شكل حركة تصحيحية جديدة على خط قنديل–السليمانية–القامشلي، بدعم ورعاية إيرانية-إسرائيلية.
أطاحت رسالة أوجلان، ومن أسهم في إعدادها، بالمشروع الإسرائيلي الإقليمي الهادف إلى لعب الورقة الكردية في المنطقة، وبفرص إيران في الإمساك بالعديد من خيوط الملف. لذلك، سيكون هناك من يعترض على الواقع الإقليمي الجديد، الذي يحاول الأتراك والأكراد صناعته على طريق مراجعة السياسات والمواقف في التعامل مع ملف مزمن، والحؤول بعد الآن دون انتقاله من يد إلى أخرى.
عرقلة قنديل لطلب أوجلان ستكون بهدف صناعة انشقاقات في صفوف حزب العمال، بإرادة أطراف إقليمية مؤثرة لا تريد أن ينتهي الصراع التركي-الكردي في الإقليم، أكثر من كونها مجرد مناورة لانتزاع تنازلات سياسية من الجانب التركي.
تقول القيادات التركية إن رسالة أوجلان موجهة إلى حزب العمال، لكن الواقع يقول إنها تعني الأتراك بقدر ما تعني الأكراد، داخل تركيا وخارجها. احتمال كبير أن يكون أوجلان قد وصل إلى قناعة بأن أميركا ترامب لن تعبأ سوى بمصالحها وما تريده، وأنها جاهزة للمتاجرة بالورقة الكردية في المنطقة، بالشكل والطريقة التي تخدم مصالح إسرائيل، التي قررت الدخول السريع على خط الملف عبر شرق الفرات.
ستكون الأنظار مشدودة نحو قنديل والقامشلي وطريقة تعاملهما مع ما يدعو إليه أوجلان، لكنها ستكون أيضًا باتجاه من سيحاول تحريكهما في تل أبيب وطهران.
فحصة "قسد" و"مسد" في رسالة أوجلان موجودة، شئنا أم أبينا. من يقدم السلاح والمال والغطاء السياسي سيطالب بشراء المواقف والقرارات أيضًا. لا فصل بين فحوى رسالة أوجلان بشقها التركي والسوري، حتى ولو حاولت قيادات "قسد" تحييد نفسها.