في واحدة من رواياتي، كتبتُ قصّة فرعية صغيرة؛ يتحوّل بعض العراقيين من مختلف الطوائف والقوميات إلى الديانة البوذية، ويطالبون بإنشاء معبدٍ لهم في بغداد. ولو كان لي أن أطوّر هذه القصة لافترضتُ أنّهم غدوا بضعة ملايين، وربما تحوّلوا إلى "كتلة اجتماعية" كبرى، تطالب بأن تحكم البلد وفق الأعراف السياسية السائدة اليوم.
يمكن أن تغدو هذه القصّة المُتخيَّلة كابوساً للطبقة السياسية العراقية الحاكمة اليوم، وبالذات، للإسلاميين الشيعة، الذين اخترعوا طبقات متعدّدة لإنتاج منظور مشوّه للحياة السياسية، في بلد ديمقراطي مفترض. أولاً، هم اختزلوا المسافة بين الشيعة والإسلام السياسي الشيعي، فالذي لا ينتمي إلى الفئة الثانية ليس شيعياً أو هو شيعي "كاره لنفسه"، أو خائن لشيعيّته. ثانياً، هم ارتضوا ألا يتحدّثوا باسم تلك الفئة من الناخبين الذين صوّتوا لهم، وإنّما أنّ يتحدّثوا باسم الشيعة بالمُجمل، حتى المُلحدين منهم أو غير المبالين. ففي ساعة الفصل مع الخصوم، يحوّلون كلّ التنوّع الاجتماعي والفكري والسياسي، في ديمغرافيا الشيعة، إلى شيء واحد أحادي المعنى اسمه "الشيعة". ثالثاً، هم يمسحون الخطوط الموضوعية الفاصلة ما بين معنى الأغلبية السكّانية والأغلبية السياسية، ويعتبرون أنّ هناك حقّاً ابتدائياً، قبل الذهاب إلى صناديق الاقتراع وصداع الفرز والعدّ، بأن "نحكم نحن باسم الاغلبية السكّانية"، حتى وإن لم يحصل المُتحدّث، وكان ذلك في غير مرّة، سوى على مقعد انتخابي واحد، فهو لديه من الثقة ما يجعله يتحدّث باسم الأغلبية السكّانية، وكأنّها كلّها ذات اتجاه سياسي واحد، وكلّها ذهبت وصوّتت له. رابعاً، في الحقّ المفترض بحكم البلد، باسم الأغلبية الديمغرافية، هم يُسقطون جدوى الانتخابات أصلاً، فما علينا سوى أن نُجري إحصاء سكّانياً مع تحديد خانة الطائفة والدين والعرق، لنعرف من هو صاحب الأغلبية الديمغرافية، التي لها حقّ حكم العراق. خامساً، في الحديث الدائم المدلّس، الذي يُصدّر معلوماتٍ مغلوطة إلى الجمهور، ويبتزّه عاطفياً، يتم التعامل مع الشراكة السياسية مع الأطراف الأخرى من المكوّنات والأعراق والطوائف، على أنّها شراكة اضطرارية، وقد عبّر أكثر من نائب وسياسي في دورات مختلفة عن هذه الفكرة، وأنّ "من حقّنا، باعتبارنا شيعة، أن نأخذ رئاسة الجمهورية والبرلمان"، فالأمر هنا ليس أكثر من منحة وهبة للآخرين، و"تنازل منا لهم".
المفارقة أنّ هذا الخطاب يستبطن شرعية لا علاقة لها بالانتخابات، ولا بالعمل السياسي والبرامج الانتخابية، وإنّما بشيءٍ من أحكام الطبيعة وزيادة الولادات. ولو تحوّل غداً، كما افترضت في قصّتي الخيالية، عراقيون إلى دين أو مذهب آخر، بنسبة تثلم غرور الأغلبية السكانية، فلن يكون لهذا الخطاب من جدوى ومعنى. في الحقيقة، مع نظام ديمقراطي حقيقي وأحزاب فعلية، وليست واجهاتٍ محميةً بأموال الفساد والسلاح، فإنّ السكّان الذين يُعرّفون أنفسهم بالعنوان الطائفي أنّهم شيعة أو أولئك الذين من خلفية اجتماعية شيعية، سيكون لهم التأثير الأكبر في العملية الانتخابية، وسيكون للنوّاب القادمين من هذه البيئات حصّة كبيرة، فلا خوف، في النظام الديمقراطي، على حقّ المجموعات السكّانية باعتبارهم مجرّد سكّان. وسترفع كلّ المناطق السكنية نوّاباً منها إلى البرلمان وفي مراكز القرار.
والأغلبيات في النظام الديمقراطي الحقيقي سياسية، يتكئ عليها هذا النظام لحسم من يشكّل الحكومة، وقد تكون أغلبية سياسية من أفراد، من مختلف الخلفيات الطائفية والعرقية، فما يجمعهم هو اتجاه سياسي لا مُجرّد انتمائهم إلى جماعة طبيعية، لأنّنا في عمل سياسي، ولسنا أمام تجمعات ذاهبة في زيارة دينية. ما لدينا اليوم ليس اتجاهات سياسية، وإنّما جماعة تريد أن تدوس على رؤوس الجماعات الأخرى، حتى لو كان أفرادها من المكوّن الطائفي نفسه لكن يختلفون في الأفكار والتوجّهات. فتصرّ، مثلاً، على فرض عيد خاصّ بهذه الجماعة خلافاً لباقي الجماعات الوطنية، وغيرها من الممارسات التي تقصي "الآخر"، وتعتبر ذلك حقاً أصيلاً لها. على الرغم من أنّها، هذه الجماعة السياسية الحاكمة، لا تُمثّل الأغلبية بأيّ حال، فالأغلبية المفترضة مجرّد كيان خيالي، هي من تتمسّك به وتحاول فرضه على الواقع. أمّا على الأرض، فهناك تجريف للتنوّع السياسي والفكري داخل المجتمع العراقي بشكل عام، وداخل حيّز الجماعة السكّانية الشيعية نفسها.