صالحة علام - الجزيرة مباشر
تصاعد العمليات العسكرية الوحشية لدولة الاحتلال الإسرائيلي على غزة، وفصل المناطق الشمالية منها عن بقية القطاع، ومحاصرة سكانه ومنع وصول المساعدات الطبية والإنسانية لهم، واستهدافهم من جانب القناصة، تنفيذا لما يسمى بـ”خُطة الجنرالات”، التي تهدف إلى تحويل وسط وشمال القطاع إلى منطقة عسكرية محظورة على المدنيين.
جميعها دلائل تؤكد بما لا يدع مجالا للشك أن دولة الاحتلال انتقلت من الخٌطة الرئيسة التي انتهجتها على مدى عامل كامل إلى تطبيق الخٌطة “ب” بدعم مطلق من الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي.
فبعد أن فشلت إسرائيل خلال العام المنصرم في تحقيق أي من أهداف مخططها الأول، الذي عملت بموجبه على تفريغ قطاع غزة من سكانه، وإجبارهم على الفِرار والهجرة تحت وطأة حرب الإبادة التي تمارسها ضدهم، تم الاتفاق بين إسرائيل وحلفائها على زيادة حجم التصعيد الوحشي الذي يستهدف المدنيين من سكان قطاع غزة بما يكفل إغلاق ملف القضية الفلسطينية لمصلحة مخططاتهم في المنطقة.
لقد قررت واشنطن وحلفاؤها من دول الاتحاد الأوروبي إطلاق يد دولة الاحتلال، ومنحها ضوءا أخضر دون قيد أو شرط هذه المرة بغية إنهاء المهمة التي كان يجب عليها إتمامها من قبل، وهو ما يبدو جليا في حجم الدعم العسكري والسياسي الممنوح لها من قبلهم، وفي تبجح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو وتطاوله على دول المنطقة، وتهديداته التي أصبح يطلقها هنا وهناك دون ضابط أو رابط.
الإدارة الأمريكية بكامل هيئتها السياسية والعسكرية على سبيل المثال تساند دوما دولة الاحتلال، وتعد أمنها هو أمن الولايات المتحدة، بل ووجهت المزيد من الأسلحة التي تنتجها مصانعها لدعم الجيش الإسرائيلي، التي كان آخرها نشر منظومة الدفاع الجوي “ثاد” لاعتراض الصواريخ الباليستية، إلى جانب الزيارات المكوكية لعسكرييها لتل أبيب لمناقشة خطط مواجهتها لمقاتلي حماس، ومدها بالجنود لمساندة قواتها فيما تقوم به من عمليات ضد الفلسطينيين.
برغم جميع المناشدات التي تطلقها المنظمات الدولية، وسياسيو العديد من دول العالم بضرورة وقف تصدير السلاح لإسرائيل لإجبارها على وقف عمليات الإبادة التي تمارسها ضد المدنيين في قطاع غزة.
ولعل من أبرز الأدلة المطروحة حاليا إعلان ألمانيا -ثاني أكبر مصدر أسلحة لإسرائيل- على لسان رئيس وزرائها أولاف شولتس أن بلاده ستظل تدعم حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها، متجاهلا منح نفس الحق للفلسطينيين واللبنانيين الذين يتعرضون لأبشع عمليات الاستهداف من جانب جيش الاحتلال الإسرائيلي، بينما تبرعت وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك بإيضاح المعنى الذي يقصده رئيس وزراء بلدها بقولها: “الدفاع عن النفس يعني بالتأكيد تدمير الإرهابيين، وليس التصدي لهم فقط، لقد أوضحت أن المناطق المدنية ربما تكون معرضة لفقدان وضعها المحمي بسبب إساءة استخدامها من قبل الإرهابيين”، في تبرير سخيف يستهدف إضافة الشرعية على المجازر التي يقوم به جيش الاحتلال ضد المدنيين.
عمليات التهجير والتجريف، وتدمير البنية التحتية لقطاع غزة، وهذا الكم الهائل من القتل للأطفال والنساء والمدنيين العزل لا يأتي في إطار حق أي دولة في الدفاع عن نفسها كما يشيع سادة العالم “الحر”، فما بالك بدولة احتلال.
إن الحقيقة التي يجب أن ندركها جميعا، التي حذر منها نائب الأمين العام لحزب الله أننا أمام مخطط يستهدف تحقيق مصالح كل من الولايات المتحدة الأمريكية، ودول الاتحاد الأوروبي، وإسرائيل على حساب حياة الشعبين الفلسطيني واللبناني في مراحله الأولى، يليه استهداف شعوب أخرى في المنطقة لاحقا تحت مسمى “الشرق الأوسط الجديد”.
الولايات المتحدة الأمريكية تبذل الغالي والنفيس في هذه الحرب من أجل تصفية القضية الفلسطينية، وإزالة أي وجود فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة ليس فقط ضمن دعمها لخطط الاحتلال التوسعية، بل من أجل تمهيد الطريق أمام تنفيذ حلمها بإقامة ممر تجاري يربط بين الهند وأوروبا مرورا بالشرق الأوسط، وهو المشروع المسمى “ممر بايدن”، الذي أيقنت أنه السبيل الوحيد لإطالة أمد سيطرتها على مقدرات العالم، ولمواجهة التمدد الاقتصادي الصيني في كل من آسيا الوسطى، والشرق الأوسط مرورا بأوروبا، وإفريقيا حتى أمريكا اللاتينية عبر العديد من الممرات التي تسمح لها بتعزيز مكانتها الاقتصادية، ووجودها تجاريا في منطقة جغرافية بالغة الاتساع..
وهو ما يفسر سبب تصريح دونالد ترامب مرشح الحزب الجمهوري لخوض السباق الرئاسي في الانتخابات الأمريكية، الذي قال إن: “قطاع غزة يمكن أن يصبح أفضل من موناكو”.
أما دول الاتحاد الأوربي الباحثة عن آلية جديدة لمواجهة أزماتهم الاقتصادية، وارتفاع حجم التضخم والغلاء الفاحش الذي تعانيه شعوبهم بسبب اتساع الهيمنة الصينية على اقتصاديات العالم، عدوا ممر بايدن بمثابة طوق النجاة بالنسبة لهم، الذي يحقق لهم الازدهار الاقتصادي، ويرفع من حجم عائداتها، ويؤمن لهم توفير احتياجاتهم من المواد الأولية وتنوع مصادر الطاقة بأسعار زهيدة بما يضمن الحد من التضخم، وانخفاض الأسعار، وتحقيق رضا شعوبهم.
وتحقيقا لهذه المكاسب جاءت تصريحاتهم وأفعالهم داعمة بشكل مطلق للوحشية الإسرائيلية، إذ لا تزل التصريحات الغربية تصب في خانة الدفاع عن أمن إسرائيل، فيما لا يزال يقبع قبالة سواحل غزة في شرق المتوسط الأساطيل الحربية لكل من ألمانيا، وإيطاليا، وبريطانيا، وفرنسا -رموز الحقبة الاستعمارية في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين- إلى جانب حاملات الطائرات الأمريكية، في وضع استعداد كامل لدعم دولة الاحتلال ومدها باحتياجاتها العسكرية لاستكمال حربها لإبادة الشعب الفلسطيني، وتهيئة الأرض لإقامة ما يسمى ب “الشرق الأوسط الجديد”.
والشرق الأوسط الجديد وفق الرؤية الصهيونية له جناحان: أولهما، زيادة الرقعة الجغرافية لدولة الاحتلال، عبر ضم العديد من أراضي دول المنطقة إليها تحقيقا لحلم إسرائيل الكبرى، الذي يسابق نتنياهو الزمن لتحقيقه، مهما سال من دماء، وتناثرت أشلاء آلاف الجثث لأطفال ونساء ومدنيين أبرياء، حتى وإن كانت هذه الجثث لأسرى إسرائيليين لا يزالون بقبضة حماس.
المهم هو إتمام السطو على ما تبقى تحت أيدي الفلسطينيين من أراض، سواء في قطاع غزة أو في الضفة الغربية، وإنهاء أي أثر للوجود العربي أو الفلسطيني في هذه الأرض، لإغلاق هذا الملف إلى الأبد، وهو ما يدعمه الأمريكيون، وهنا يبرز تصريح آخر لترامب، وعد فيه بالعمل على توسيع مساحة إسرائيل حال فوزه بالرئاسة.
لقد ضحى نتنياهو بقضية الأسرى الإسرائيليين، ضاربا عرض الحائط بمناشدات ذويهم للإفراج عنهم، في مقابل تحقيق نصره الشخصي، ظنا منه – وإن بعض الظن إثم- أن التاريخ سوف يذكر له أنه الصهيوني الذي استطاع الوقوف في وجه العالم وتحويل أكذوبة إسرائيل الكبرى إلى حقيقة.
ثانيهما، المضي قدما في إنشاء ممر بايدن، هو الجناح الآخر للشرق الأوسط الجديد، الذي حمل نتنياهو خريطته على منبر الأمم المتحدة، مدعيا أن المنطقة التي يمر بها، التي تخلو من أي وجود فلسطيني، تمثل من وجهة نظره خريطة النعمة، حيث تحوي دولا لها علاقات دبلوماسية بإسرائيل، أما الخريطة التي تحوي وجودا للفلسطينيين ودول محور المقاومة – لبنان والعراق وسوريا- فقد أطلق عليها لفظ “خريطة النقمة”.
الغريب في الأمر أن هناك من لا يزال لديه أمل في المجتمع الدولي، بل ويراهن على قدرة هذا “المجتمع الدولي” في الضغط على دولة الاحتلال وإجبارها على قبول وقف إطلاق النار، والعودة إلى المسار السياسي، والجلوس لطاولة المفاوضات، لبحث الإطار العام لآلية حل الدولتين.
وكأنهم لم يلحظوا على مدى عام كامل إن المطالبات الأوروبية والأمريكية بضرورة وقف إطلاق النار، والعودة إلى المفاوضات إنما تأتي فقط عندما يستشعرون انفلات الأمور من يد إسرائيل، أو أنها تعاني بشدة تحت ضغط ضربات المقاومة، أو عند فشلها في تحقيق أي انتصار ملموس على الأرض يطمئنهم على سير خططهم كما هو مرسوم لها، ذرا للرماد في العيون، وحفظا لماء وجه المجتمع الدولي الذي يقوده ويوجه بوصلته ما يسمى ب “العالم الحر”.