فنّ الأهزوجة العراقية الشعبي... قصيدة و"دبجة" في السلم والحرب
تُعتبر الأهازيج، أو "الهوسات"، كما يُطلق عليها محلياً في العراق واحدة من أبرز علامات مناطق جنوبي البلاد، وقد انتشرت في العالم العربي مؤخراً من خلال الأهزوجة العراقية "لا تتمادى نخبزك خبز العباس".
وعادةً تؤدى الأهازيج من مجموعة رجال مجتمعين دائرياً، ويُلقى خلالها الشعر الشعبي العراقي الخاص بالمناسبة التي اجتمعوا لأجلها، والشطر الأخير من القصيدة يتحول إلى دبكة أو "دبجة" باللهجة العراقية، وتتم بضرب الأرض بالأقدام وترديد الشطر الأخير ضمن صوت جماعي واحد.
الأهزوجة العراقية شكل فلكلوري يحدث في أغلب المناسبات، أي أنه يظهر في الأفراح والأحزان وحتى أثناء الاشتباكات التي تحدث بين بعض العشائر، وهو يمثل حالة حماسية تجمع الأصدقاء وأبناء القبيلة الواحدة، حتى أنها تأخذ طابع الاستياء والاندفاع، وعادة ما تستهدف جماعة أخرى ما، أيّ أن من ورائها قصد نحو جهة ثانية.
وبرزت أخيراً، الأهزوجة العراقية "لا تتمادى نخبزك خبز العباس"، وقد انتشرت عربياً، بل إن بعض مشاهير مواقع التواصل الاجتماعي من الأجانب، أقدموا على ترديد مفرداتها والرقص على طريقة "الدبج" العراقي، من دون أن يعرفوا معنى هذه الأهزوجة وامتداداتها التاريخية وارتباطها بوجدان العراقيين وذكرياتهم عنها.
وسبق أن انتشرت أهازيج أخرى، ولها امتدادات تاريخية لمجتمعات غرب وجنوب العراق، مثل "مالك هيبة يالمالك شر"، وتعني أن الهيبة لا تتحقق إلا إذا كان الشخص قادراً على الإيذاء ولديه قوة، وبالرغم من اختلاف الكثيرين مع هذه المفاهيم، إلا أن لها أصداء إعلامية بالغة وتُردَّد عادة في الأعراس والاحتفالات وعلى إيقاعات متفرقة.
لكن الأهزوجة العراقية "خبز العباس" انتشرت سريعاً وصارت متداولة عربياً على نحو لافت، لوقعها الموسيقي ربما وليس لمعناها، لا سيما أن غالبية العرب لا يعرفون معنى "خبز العباس"، وهو مجموع الخضار من البقدونس والرشاد والجرجير والفجل والكرفس، تهرس سوياً ثم توضع في الخبز لتشكل وجبة غنية بالفيتامينات والمعادن، ولا تُكلف مالاً كثيراً في الوقت ذاته.
وكان العراقيون يُوزعون "خبز العباس" على الجيران والأحباب في أيام الأفراح وفي بعض المناسبات الدينية أيضاً، والعباس هو الإمام العباس بن علي بن أبي طالب، ومرقده في العراق ويزوره سنوياً ملايين الوافدين لمدينة كربلاء. وجاء استعمال الكلمة في هذه الأهزوجة من باب التشبيه بأن الذي يعادينا نخبزه كما نخبز الخبز، واستعار الشاعر الشعبي مفردة "خبز العباس".
يردد العراقيون كثيراً هذه الأهازيج، باعتبارها صناعة ثقافية واجتماعية، ومن بينها أهازيج يعود تاريخها إلى عقود مضت، وبالرغم من تراجع ظاهرة توزيع "خبز العباس" في العراق، ربما جرّاء سرعة الحياة الحديثة وصعوبتها في الوقت نفسه، لكن مجتمعات من جنوب العراق ما تزال متمسكة بهذه الفعالية الاجتماعية.
والأهزوجة العراقية فن شعبي يتشابه كثيراً مع شكل الأهازيج الأردنية والفلسطينية، لكنها بطابع ولون آخر يحمل عادة ملامح القسوة، وتحتمل عادة في بعض معانيها أساليب التهديد والوعيد.
قبل عامين تقريباً انتشرت أهزوجة ترتبط بحادثة وقعت في محافظة البصرة، حين تقدم شاب لخطبة فتاة أحبها، فرفضه أهلها، وسرعان ما أقدم والد الفتاة على تزويجها جبراً، ما دفع الشاب إلى حمل السلاح والتوجه إلى منزلها، وهو يردد: "طلعنه تفاكنه وصار الفشك حنه، وتزامطنه ويه أهلها بيلة الحنة، أبوها يريدها للغير، ما يدري بجيله آخذ روحه"، وهذه من الأهازيج العنفية المعروفة.
لكن في الوقت ذاته، تنتشر الأهازيج التي تمثل حلاوة العلاقات الطيبة بين الأصدقاء، ويقول أحد الشعراء في محافظة ذي قار، وهو يصف صديقه: "وتلاكت روحي بروحك مثل الماي ملاكه الماي"، وتعني أن روحيهما التقتا مثل الماء الذي يلتقي الماء.
وعن "خبز العباس"، قالت داليا أم علي، من بغداد (40 عاماً)، إنّها "أكلة بسيطة جداً، وقد راج توزيعها بين الناس، خلال فترات الحرب العراقية الإيرانية في ثمانينيات القرن الماضي، وكان العراقيون يقدمون النذور على سلامة أبنائهم في الحرب بتوزيع خبز العباس، كما أنهم كانوا يوزعون هذه الأكلة عن أرواح الموتى، وفي المناسبات السعيدة أيضاً، ومن دون مناسبة أحياناً".
وأضافت أم علي أن "عوائل كثيرة في العراق ما تزال ملتزمة بهذه العادة الأصيلة لدى المجتمع العراقي، وأنها لم تكن مقتصرة على مكون معين، بل هي عادة لدى جميع العراقيين"، مبينةً أن "العادة القديمة لا يُعرف تاريخها على وجه الدقة، لكننا نمارس هذه الفعالية الاجتماعية منذ عقود، وأهلنا أيضاً كانوا يمارسونها".
ولفتت إلى أن "عبارة خبز العباس منتشرة، حتى إذا وقع شجار بين شخصين أو جماعتين، عادةً ما يقال إن الجماعة قد أوقعت خسائر بالجماعة الثانية، وباللهجة العراقية، نقول خبزوهم خبز العباس".
من جهته، أشار الناشط العراقي حسين صافي إلى أن "الترندات العراقية صارت سريعة الانتشار في الوطن العربي، حتى في البلدان الأجنبية، لأنها قريبة من المشاعر البشرية والإنسانية، كما أن صناع المحتوى في العراق يحظون بمتابعة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، تحديداً على منصة تيك توك"، وأوضح لـ"العربي الجديد" أن "الأهازيج في العراق، عادة ما تنتشر لأنها ليست وقتية، بل إنها تحمل قصصاً وأفكاراً وامتدادات تاريخية".
أما الصحافي العراقي ياسر طه فلفت إلى أن "التراجع في المستوى الثقافي أدى إلى صعود المحتوى الهابط الذي لا يهمل أي أهمية على صعيد الفكر الإنساني، مع صعوبة انتشار المحتويات الهادفة التي يقدمها المفكرون العراقيون"، مستكملاً حديثه أن "أهزوجة خبز العباس، انتشرت لأنها تحتوي على إيقاع عراقي معروف ومحبوب، لكن هناك محتويات تنتشر أيضاً وهي تدعو أحياناً إلى العنف والكراهية، وهذه مشكلة الانتشار عبر مواقع التواصل الاجتماعي".
من جانبه، لفت الباحث في شؤون التراث العراقي سليم الفيصل أن "الأهزوجة العراقية تعود إلى الحضارات القديمة في بلاد ما بين النهرين، ويرجح أن السومريين كانوا يدبكون بنفس الطريقة التي يقوم بها سكان جنوب العراق حالياً، وبالنظر للوضع الاقتصادي الذي مرّ على هؤلاء الناس، فقد ابتعدت الأهزوجة عن المعاني الرحيمة، وأخذت طابعاً عنفياً".
وأكمل الفيصل في حديثٍ مع "العربي الجديد" أن "القصائد التي تُقرأ على جمع من الناس في الاحتفالات ومجالس العزاء وفي المديح والهجاء، عادةً ما تنتهي بسطر أخير، يُلحن بطريقة أهزوجة خبز العباس التي اشتُهرت أخيراً، على وقع رقصة تحمل شكل الثبات في الأرض، وكأن الراقصين يقولون إن هذه أرضنا، ويردّدون شعارهم الخاص بالمناسبة".