الأكلات الشتوية... نكهات الدفء والحميمية والانتماء في العراق
مع انخفاض درجات الحرارة في فصل الشتاء يزداد إقبال العراقيين على الأكلات الشتوية التراثية التي توفر الدفء، وتحمي، بحسب المعتقدات الشعبية، من الإصابة بنزلات البرد التي تنتشر في هذا الوقت من السنة.
ومن بين أبرز الأطعمة الشتوية التي يقبل عليها العراقيون "الشلغم" وهو عبارة عن نبات اللفت المسلوق، والباقلاء (الفول المسلوق)، واللبلبي (الحمص المسلوق)، وكلها تُباع على عربات تنتشر في الأحياء والشوارع. ويُقبل العراقيون على شراء هذه الأكلات من الباعة الجائلين الذين يعرضونها في أوعية مغلية، ويقدمونها ساخنة كي تتناسب مع برودة الطقس.
يؤكد الحاج نصيف جاسم الذي تجاوز السبعين من عمره، لـ"العربي الجديد"، ولعه بتناول الأطعمة الشتوية من عربات الباعة الجائلين، كونها تُعيد ذكرياته إلى عقود ماضية عاش فيها تقاليد وأجواء عراقية أصيلة. ويقول إن الباقلاء تحديداً لها مكانة خاصة عنده، ويحرص على تناولها ليلاً من عربات الباعة، إذ يجد في ذلك "متعة لا تضاهى" كونه أحد التقاليد القديمة، وليس مجرد عادة غذائية، بل هو جزء من التراث الذي يسعى إلى الحفاظ عليه ونقله إلى الأجيال القادمة.
بدوره، يستعيد خليل الهنداوي (62 سنة)، في حديثه لـ"العربي الجديد"، ذكريات الطفولة والشباب، حين كان يتسامر مع أصدقائه في ليالي الشتاء الباردة بينما يتناولون الباقلاء المسلوقة. ويتذكر عربة البائع حسوني، الذي كان يلقب شعبياً بـ"حسوني أبو الباجلة"، وهو الاسم الشعبي للباقلاء في العراق.
ويصف تلك اللحظات بأنها "كانت مميزة للغاية، إذ كانت رائحة الباقلاء المسلوقة تنتشر في المكان، ويتجمع الجميع حول عربة حسوني، ويتداولون دفء الحكايات القديمة والضحكات. كانت عربة حسوني رحمه الله جزءاً من حياتنا اليومية، لذا أواصل تناول الباجلة من الباعة المتجولين، كي أستعيد ذكريات تلك الأيام الجميلة".
ويقدم الباعة الأطعمة الشتوية التقليدية بطريقة فريدة، وهم يضيفون أجواءً خاصة تميّز شتاء المدن العراقية. ينقسم باعة "اللبلبي" إلى نوعين، فبعضهم يتجولون داخل الأزقة، ويتنقلون بين الأحياء بعربات بسيطة تحمل أوعية مليئة بالأكلة الساخنة، ما يضفي طابعاً حيوياً يدفع السكان إلى الخروج للشراء. في حين يفضل آخرون اتخاذ مواقع ثابتة على جوانب الطرق، أو في الساحات العامة، ويصبح لهم أماكن يعرفها الناس ويقصدونها لتناول تلك الأطعمة المحببة، ما يمنحهم زبائن دائمين يعودون إليهم باستمرار.
ولتناول هذه الأطعمة الشتوية طريقة معروفة، إذ تقدم في أوانٍ صغيرة تحتوي على العديد من المواد المطيبة التي تضاف، بحسب رغبة الأشخاص.
تتذكر هتاف عباس (56 سنة) أجواء فصل الشتاء التي تتسم بانتشار الباعة الذين يتجولون في الأحياء الشعبية. وتقول لـ"العربي الجديد": "يضفي هؤلاء الباعة أجواءً دافئة ونكهة خاصة للشتاء، إذ يتجولون داخل الأزقة مساءً، ويزينون عرباتهم بالفوانيس والأضواء. ويزيد من أجواء المتعة تقديمهم أكلات الشتاء المحببة، وإعلان قدومهم بعبارات منغّمة غير مفهومة في بعض الأحيان، لكنها تضفى البهجة على المكان، وتبث طاقة إيجابية، وتجذب الأهالي للشراء، ويعرف الجميع هؤلاء الباعة من أصواتهم المميزة، ولا أزال أتذكر بعض هذه النغمات من طفولتي".
تتابع: "أتذكر أحد الباعة قبل أكثر من أربعين عاماً، وهو يُنادي بشكل مضحك وفريد، ويكرر حرفي اللام والباء بلهجة سريعة. كان ينادي لب لب لب لب التي يستمر في تكرارها نحو دقيقة، فتنتشر البهجة بين الحاضرين، ويتجمع الأطفال فرحين بسماع ندائه المألوف".
وعموماً يشهد باعة هذه الأطعمة إقبالاً واسعاً من أشخاص من مختلف الأعمار، يتجمعون حول العربات في أمسيات الشتاء الباردة، ويتفقون جميعاً على أن تناول هذه الأطعمة الشتوية يتجاوز كونها مجرد وجبات إلى كونه طقس خاص يرتبط بالأجواء التي تحيط بعربات الطعام، ونكهات الأكلات الساخنة الممزوجة برائحة الشتاء التي تضفي الحميمية والانتماء.
يُبدي كرم عادل (18 سنة)، في حديثه لـ"العربي الجديد"، شغفه بتناول أطعمة "الشلغم" و"اللبلبي" و"الباقلاء" من عربات الباعة الجائلين، رغم أن والدته تعد هذه الأطباق بمهارة في المنزل. ويوضح أن تناول هذه الأطعمة في الشارع برفقة الأصدقاء، جلوساً أو وقوفاً على الأرصفة، طقس مميز لا يمكن تفويته، ويخلق أجواءً ممتعة من الحكايات والضحكات.
ويؤكد أن وجود الباعة الجائلين الذين يتميّزون بأصواتهم وعباراتهم الفريدة، يجعل التجربة ممتعة، إذ تجمع الأصدقاء، وتربطهم بتراث تركته الأجيال السابقة.
ويجد باعة هذه الأكلات في الشتاء فرصة عمل موسمية مربحة، وهم يُظهرون حرفية عالية في إعداد هذه الأطعمة، إذ يضيفون خلطات ونكهات خاصة تميّز كل طبق وتمنحه طابعاً فريداً.
يبيع أحمد عمران، وهو طالب جامعي، صنفين من الأطعمة الشتوية، هما اللبلبي والباقلاء، مستخدماً عربة كبيرة، وهو يتخذ من مفرق طريق يؤدي إلى شارع الكرادة المزدحم في بغداد موقعاً له، ويقبل عليه سكان الحي والمارة. يقول: "تعلمت المهنة من صديقي، وهي توفر لي دخلاً جيداً يساعدني في توفير احتياجاتي الخاصة التي تخفف الأعباء عن والدي. أستخدم توابل وبهارات متنوعة، وأحرص على تقديم الأطباق ساخنة، وبنكهات تقليدية ممزوجة بلمسات مبتكرة لجذب الزبائن، ما يجعل عربتي محط أنظار الناس الذين يتناولون أطعمة متنوعة النكهات بين حارّة وباردة. كما أهتم كثيراً بنظافة الأطعمة، والعربة، والمكان المحيط، فانا أحب هذا العمل الذي أتعرف من خلاله إلى أشخاص جدد بشكل دائم".