عن الإلحاد في العراق

العربي الجديد

عن الإلحاد في العراق

  • منذ 6 ساعة
  • العراق في العالم
حجم الخط:

قد يبدو العنوان غريباً، أو ربّما مُستفِزاً، خاصّة أننا نتحدّث عن بلد ذي غالبية مسلمة، وتحكمه أحزاب الإسلام السياسي منذ أكثر من عقدَين، إلا أن واقع الحال يؤكّد أن ظاهرة الإلحاد في العراق تتّسع، ويكفي أن تعايش مجموعات من تلك "المنغلقة على نفسها" عبر فضاء التواصل الاجتماعي، حتى تعرف أنها بدأت تكبر، وأن الأفراد صاروا جماعات، وأن هذه الجماعات بدأت تنقل فِكَرها إلى فئات أخرى من المجتمع، في ظلّ انعدام أفق حقيقي للحوار، وتضييقٍ على الفِكَر، وممارسات قوى الإسلام السياسي في العراق وفسادها وتسلطها على البلاد.
عُرف النظام السياسي في العراق، منذ تأسيس الدولة العراقية الحديثة عام 1921، بأنه في غالب الأحيان أقرب إلى العلمانية منه إلى الثيوقراطية، فقد كانت السلطة تجيد، في أحيان كثيرة، لعبة فصل الدين عن الدولة، وإن لجأت إلى الدين في بعض مراحلها، إلا أنها في العموم لم تكن حالةً بقدر ما كانت مرحلةً استثنائيةً سرعان ما تنتهي. كما عُرِف عن المجتمع العراقي أنه أقرب إلى التديّن الوسطي بلا مغالاة أو تطرّف، وهو ما سهّل في مراحل كثيرة انتشار فِكَر الشيوعية الماركسية (بنسختها المتطرّفة) في أربعينيّات القرن المنصرم وخمسينياته، قبل أن تبدأ مرحلة صعود التيّار القومي، متأثّراً بفِكَر عبد الناصر في مصر، الأمر الذي مهّد لوصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة عام 1968.

تسلّط القوى والأحزاب الدينية المهيمنة على السلطة في العراق قادت مزيداً من الشباب العراقيين إلى الإلحاد

غير أن عراق ما بعد الغزو الأميركي عام 2003، أخذ نمطاً سياسياً جديداً، فبينما كانت تريده أميركا نظاماً سياسياً على النهج الغربي في متبنّياته، على الأقلّ المؤسّساتية، كانت قوى الإسلام السياسي (تحديداً الشيعية) تريده ثيوقراطياً أقرب إلى تجربة النظام في إيران التي تُعدّ الراعي الرسمي والمسيّر الفعلي لتلك القوى والأحزاب، التي هي الحاكم الفعلي للعراق، مع وجود مشاركة شكلية لباقي المكوّنات العراقية (السُنّة والأكراد).
نعم، لا وجود لطبيعة هذا الحكم في الدستور العراقي وبنوده التي أُقرِّت عام 2005، إلا أن الديباجة الدستورية كانت توحي بذلك، من خلال لهجة التعظيم والتقديس الخاصّة بـ"المراجع الدينية"، وهي لهجة كانت مقصودة، وانعكست، بشكل أو بآخر، في طبيعة نظام الحكم لاحقاً، بالاستعانة بفتاوى المراجع في أمور سياسية عديدة، بدءاً من انتخابات 2005، وصولاً إلى فتوى "الجهاد الكفائي"، التي بموجبها تأسّس "الحشد الشعبي" عام 2014، وليس انتهاءً برفض قوى سياسية مهيمنة على السلطة، ولها أذرع مسلّحة، بدعوى عدم وجود فتوى من النجف.
اعتقلت القوات الأمنية العراقية، في 2019، إحسان موسى، وهو صاحب مكتبة لبيع الكتب في الناصرية (جنوب)، بتهمة نشر الإلحاد، قبل أن يُفرَج عنه بعد توقيعه على تعهّد بعدم نشر هذه الفِكَر. ذلك كان نموذجاً، ورسالة واضحة إلى أصحاب هذا التوجّه بعدم المجاهرة بفِكَرهم، وقد وجد الملحدون في هذا تحدّياً، فراحت أفكارهم تغزو الفضاء الأزرق، مستعينين بأسماء مستعارة، بعدما جرّب هؤلاء أن يعبروا عن وجهة نظرهم في الفضاء العام، مستغلّين التعدّدية والحرّية الفكرية التي يضمنها دستور العراق.
وكان السياسي الشيعي غالب الشابندر قد تحدّث عن ظاهرة الإلحاد بين الشباب العراقيين، وخاصّة في الجنوب، فقال إن "موجة الإلحاد ستهزم العراق بسبب الممارسات الخاطئة للأحزاب الإسلامية، لقد أجبروا الناس على تجنّب الإسلام والأديان الأخرى". لعلّ أحد أكثر أسباب انتشار الإلحاد بين الشباب العراقيين أهمية الصورة السيئة التي عكستها الأحزاب الدينية التي حكمت العراق، منذ العام 2003، فعلى الرغم من أنها أحزاب "إسلامية" التوجّه، إلا أن فسادها وطائفيتها، وتخلّف كثيرين من قادتها فكرياً ومجتمعياً، جعل الشباب يطرق أبواباً أخرى، ولو إلحاديةً، بل يمكن القول إن تلك الفِكَر الإلحادية ما كان لها أن تنتشر في العراق لولا طبقة الأحزاب "الإسلامية" التي حكمت البلاد.

لانتشار التطرّف الديني من الأحزاب والتنظيمات الإسلامية دور كبير في تنامي الإلحاد

ووفقاً لدراسة لمركز المستقبل للدراسات الاستراتيجية في بغداد، قال 72% من الشباب العراقيين المُستطلَعة آراؤهم إن استخدام الدين في السياسة كان سبباً رئيساً في تغيير نظرتهم إلى الدين. لقد كان لانتشار التطرّف الديني من الأحزاب والتنظيمات الإسلامية دور كبير في تنامي ظاهرة الإلحاد، فقد أغلقت تلك القوى كلّ بابٍ للحوار، وفشلت في تقديم نموذج مقنع، ناهيك عن ممارسات عقائدية منحرفة مثّلتها بعض تلك القوى السياسية والأحزاب، تمثّلت في استدعاء غيبيات وإسقاطها على الحاضر بطريقة جعلت شباباً عراقيين كثيرين يتساءلون: هل هذا فعلاً هو الإسلام؟ لتبدأ بعد ذلك رحلة شكّ قادت كثيرين منهم إلى الإلحاد. يضاف أن فضاء التواصل مع العالم الخارجي عبر الإنترنت سهّل كثيراً دخول تلك الفِكَر الوافدة إلى العراق، ويكفي أن تجول في الفضاء الأزرق (فيسبوك) وتتصفّح الحسابات العراقية، لتدرك أننا نتحدّث عن ظاهرة كبيرة ومقلقة، بل هي ظاهرة آخذة في التنامي والاتساع، في غياب المراجعات الحكومية لمثل هذه الظواهر.
الفِكَر لا تُقارَع إلا بالفِكَر، وحالة التسلّط التي تمارسها القوى والأحزاب الدينية المهيمنة على السلطة في العراق قادت (وستقود) مزيداً من الشباب العراقيين إلى سلوك طريق الإلحاد، الذي صار مغرياً لشباب كثيرين، خاصّة في غياب أيّ رؤىً فكريةٍ قادرةٍ على أن تستوعب حاجات الشباب وتجيب عن تساؤلاتهم. فحتى الجامعات التي كان يُفترض أن تؤدّي دورها الفكري تجاه المجتمع، تحوّلت نسخةً مكرَّرة من القوى والأحزاب الدينية، في ظلّ سيطرة تلك القوى على وزارة التعليم العالي والبحث العلمي، والتوجّهات الدينية والطائفية، التي تقود إلى مزيد من الانغلاق الفكري، بدلاً من أن تكون ساحاتٍ للحوار وتقديم رؤىً تناسب المجتمع وحاجاته.



عرض مصدر الخبر



تطبيق موسوعة الرافدين




>