نيّات الأميركيين الحسنة في العراق
بافتراض حسن النيّات، جاءت إدارة جورج بوش (الابن) إلى العراق في 2003 من دون حلفاء أقوياء من النخبة السياسية البديلة. أو ربّما هي كانت تعوّل على "فاعلية" الديمقراطية في إرساء سياقات للصراع السياسي والتداول السلمي للسلطة، وتربية المجتمع غير المدرّب سابقاً، كي ينهمك مع الشأن العام، ويساهم في تحديد من يقود البلد. لكن من الواضح أن هذه الآليات يمكن أن تكون فاعلةً ومنتجةً في بلد مستقرّ، لديه مؤسّسات تعمل بكفاءة، وهذا ما لم يتحصّل للعراق عشية الغزو، ولم يتحقّق حتى بعد عامين، أي في 2005، إذ اندفع النظام الجديد (في سابقة تثير الاستغراب) في إجراء ثلاث عمليات اقتراع شاملة في عام، وكان الناس يذهبون إلى صناديق الاقتراع بين المفخّخات والانتحاريين، وكان جزءٌ من الشعب العراقي معبّأً ضدّ الانتخابات، ولم يكن الوضع مستقرّاً بالمرّة، ولا توجد مؤسّسة أمنية كفوءة، والفوضى تضرب أطنابها في أرجاء البلد كلّه، فسكّان بغداد مثلاً كانوا يهربون إلى بيوتهم مع العصر وقبل مغيب الشمس، لأن المدينة تتحوّل مساءً إلى مدينة أشباح، يصول ويجول فيها المجرمون والقتلة والجماعات المسلّحة.
ينطبق الأمر نفسه على سلق الدستور في السنة نفسها، وكأن الأميركيين يستعجلون نفض أيديهم من العراق وما فيه، ولكن الحقيقة أن الأحزاب الإسلامية كانت خائفةً، وتريد تثبيت مكاسبها الجديدة من خلال الإسراع للانتقال إلى الوضع الشرعي، وهو ما تحقّق مع الانتخابات الثالثة في 15 ديسمبر/ كانون الأول، التي أخرجت لنا برلماناً حسب الدستور العراقي المقرّ، وانتخب نوري المالكي كي يكون أول رئيس وزراء كامل الصلاحيات وبمدة كاملة. ثمّ سريعاً، ما تم في ظلّ هذه الحكومة هو توقيع اتفاقية الإطار الاستراتيجي لانسحاب القوّات في 2008، وهذا ما تحقّق مع نهاية العام 2011. كان من المنطقي والمعقول أن تُشكّل حكومة وحدة وطنية تضمّ جميع الأطياف والتيّارات، تقوم بعملها حتى استتباب الأمن وتحسين الخدمات، وحينها يمكن للمجتمع العراقي أن يكون قادراً على "استعمال" الديمقراطية جيّداً، ويُكتَب الدستور العراقي خلال ذلك بهدوء، وليس تحت أزيز الرصاص ودوّي الانفجارات والاستقطاب الطائفي والقومي.
إن بقينا مع حسن النيات، فشل المشروع الذي جاء به الأميركيون في 2003 في تحقيق أهدافه، ولم ينجح هذا النظام الجديد في حماية البلد والمجتمع من غزو عصابات "داعش"، فتبخر الجيش، والشرطة الاتحادية، أمام تقدّم شراذم ومجموعات إرهابية صغيرة. وفي وقت كان العراقيون ينتظرون فيه قرارات جريئة من رئيس الوزراء بإعادة تجميع صفوف القوّات الأمنية، كان الرجل مشغولاً بتجميع المليشيات، التي كانت، حتى يوم مضى، توصف بأنها مجموعات غير شرعية، ويفتح أمامها مخازن الأسلحة، ويجعلها واجهة القتال. قبل ذلك، كان الأميركيون يشاهدون كيف أن نظاماً فاشياً مثل نظام بشّار الأسد، دمّر بلده، وكان السبب في إحراق شوارع العراق بالمفخّخات، انقلب فجأة حليفاً وصديقاً، وكان ضحايا بشّار من العراقيين يتّجهون إلى سورية للقتال دفاعاً عنه. وعلى الرغم من بقاء عدّة أوراق في أيدي الأميركيين يحافظون من خلالها على بعض النفوذ في العراق، مثل التحكّم بواردات النفط العراقي، إلا أن البلد صار عملياً بأيدي الإيرانيين، وأُفرِغت العملية السياسية من محتواها، وفشل المجتمع في خمس انتخابات برلمانية في إحداث تغييرات جديّة، وما زالت وجوه كثيرة من تلك التي شاركت في الكوارث كلّها حاضرة وفاعلة في المشهد السياسي.
رغم ذلك كلّه، إلا أن كثيراً من المتغيّرات حصلت في 22 سنة من عمر النظام السياسي العراقي، وهي متغيّرات صنعتها الدماء والمعاناة أكثر من "النيات الحسنة" للأميركيين. ولدينا جيل جديد سقطت في عينيه كلّ الهالات المحيطة برؤوس القادة والزعماء، فهناك، حسب بعض الإحصاءات، ما نسبته 20% من الناخبين الشباب ولدوا في 2003 وما بعدها. وهؤلاء يمكن أن يكونوا قوّةَ تغيير بالغة الأهمية في حال وُجّهت نحو بديل حقيقي من الطبقة السياسية الحالية.