اختراق الحماية الاجتماعية... ابتزاز فقراء العراق للحصول على الإعانات
يخترق غير المستحقين نظام الحماية الاجتماعية في العراق، وينالون رواتب الإعانات الحكومية المخصصة للمعوزين ممن ينتظرونها أعواماً متوالية، ولا يجدون أمامهم سوى دفع رشى أو الخضوع لمساومات سياسيين يبتزونهم مقابل أصواتهم.
- ينتظر العشريني العراقي حسام حسنين، إعانة الرعاية الاجتماعية، منذ سجل اسمه في موقع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية ضمن قائمة المستحقين قبل ثلاث سنوات، حتى إنه مل من تكرار الدخول على منصة "مظلتي - هيئة الحماية الاجتماعية"، التابعة للوزارة دون أن يجد نفسه بين المشمولين بإعانة معدومي الدخل، رغم أنه يعيش في منزل مستأجر بحي شعبي في مدينة الحلة مركز محافظة بابل وسط العراق، وساء حاله إلى درجة أنه لا يمكنه إطعام عائلته المكونة من زوجته وطفلين أحدهما يعاني من التوحد، كما يقول لـ"العربي الجديد".
تدخل عائلة حسنين، ضمن فئات الأسر والأفراد المصنفين باعتبارهم دون مستوى خط الفقر، ويعرفهم قانون الحماية الاجتماعية رقم 11 لسنة 2014، بـ"الأسر معدومة الدخل ممن هم تحت مستوى خط الفقر، ومن ذوي الإعاقة والاحتياجات الخاصة، والأرملة والمطلقة وزوجة المفقود والمرأة التي هجرها زوجها والفتاة البالغة غير المتزوجة وفاقدة للأبوين وليس لها معيل، والعزباء التي بلغت سن الخامسة والثلاثين، واليتيم، والعاجز عن العمل بصورة دائمة بسبب المرض أو الشيخوخة، وأسرة النزيل إذا زادت مدة محكوميته عن سنة واحدة، والمستفيدين في دور الإيواء، والأحداث المحكومين ممن تزيد محكوميتهم عن سنة واحدة، والطالب المتزوج حتى الدراسة الإعدادية (نهاية التعليم الثانوي في العراق)".
ويحصل المستفيدون على إعانة شهرية تصل قيمتها "للفرد الواحد (إلى) 105 آلاف دينار عراقي (81 دولاراً أميركياً)، والأسرة المكونة من اثنين تحصل على 210 آلاف دينار (163 دولاراً)، والمكونة من ثلاثة أفراد 315 ألف دينار (245 دولاراً)، والأسرة المكونة من أربعة أفراد فما فوق 420 ألف دينار (326 دولاراً)".
ورغم وضوح القانون في تسمية الفئات المستحقة للإعانة وتحديدها، إلا أن أسراً وأفراداً من خارج هذه الفئات اخترقوا نظام الحماية الاجتماعية، بلغ عددهم منذ بداية عام 2023 وحتى الثلاثين من يونيو/حزيران الماضي 250 ألف متجاوز، كما تطلق عليهم هيئة الحماية الاجتماعية التابعة لوزارة العمل.
تُكتشف ما يقارب 100 ألف حالة اختراق لشبكة الحماية الاجتماعية سنوياً، وفق ما توصلت إليه وزارة العمل والشؤون الاجتماعية والتي تتحقق من أسماء المتقدمين، غير أنها تكشف بينهم موظفين حكوميين (بالتعاون مع ديوان الرقابة المالية) أو من يمتلكون سيارات حديثة (يستثنى من ذلك السيارات القديمة التي مضى على امتلاكها عشر سنوات) وذلك عبر قاعدة بيانات وزارة الداخلية، فضلاً عن إرسال فرق كشفية تضم باحثين اجتماعيين إلى منازل المتقدمين للحصول على الإعانة، كما يقول المتحدث باسم وزارة العمل، نجم العقابي لـ"العربي الجديد"، مضيفا أن الوزارة تسترد الأموال من المتجاوزين بالتقسيط على مدى عشر سنوات، ورجح وزير العمل، أحمد الأسدي، أن تصل قيمة الأموال المستردة من المتجاوزين حتى نهاية 2024 إلى 170 مليار دينار (132 مليوناً و116 ألف دولار).
100 ألف حالة اختراق لنظام الحماية الاجتماعية سنوياً
يستخدم المتقدمون حيلاً توضحها مديرة المشاريع في مركز بابليات لتمكين المرأة (منظمة غير حكومية)، ضحى الزبيدي، والتي تمكنت من مساعدة 25 امرأة خلال عامي 2023 و2024 في إتمام إجراءات الشمول في راتب الإعانة الاجتماعية، كما تقول لـ"العربي الجديد"، ومن ذلك أن يتفق الزوج مع زوجته على الطلاق ثم يعيدها إلى عصمته دون تصديق زواجه في المحكمة، وبالتالي تحصل المرأة على إعانة لكونها مطلقة قانوناً، أو متزوجات لم يقيدن زواجهن في سجلات الدولة ويدعين أنهن أرامل أو عزباوات، بينما يسجل غير المستحقين أملاكهم بأسماء أقارب أو أصدقاء.
وفعلاً لجأ الأربعيني العراقي جاسم حمد (اسم مستعار خشية من انكشاف أمره) إلى الحيلة الأخيرة عبر نقل ملكية سيارته إلى أخيه، وادعى أن منزل صديقه المتهالك في محافظة بابل، هو بيته، لإبعاد الشك عن الباحث الاجتماعي القادم لمعرفة حالته ومدى استحقاقه لراتب الإعانة من عدمه، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفاً: "لم يتمكنوا من كشف الأمر"، إلا أنه ليس بمفرده، إذ لا تتمكن وزارة العمل من كشف كل المتجاوزين، بسبب ضعف تنسيق هيئة الحماية الاجتماعية مع باقي الدوائر الحكومية، وفق ما يؤكده لـ"العربي الجديد" المحامي علي عبد، الذي قدم استشارات قانونية لـ 40 عراقياً وعراقية لم يتم شمولهم في راتب الرعاية الاجتماعية خلال السنوات الثلاث الماضية، رغم استحقاقهم، لكونهم من فئات معدومي الدخل ومطلقات وأرامل.
في المجمل "الدولة لا تمتلك قاعدة بيانات تبين الحالة الاقتصادية للأفراد"، يقول الخبير الاقتصادي والأستاذ السابق في الجامعة الأميركية بالسليمانية في كردستان العراق، آلان ممتاز، لـ"العربي الجديد"، مضيفاً أن الدولة لا تميز الغني من الفقير، لأنها لا تعرف دخل الفرد بسبب هشاشة النظام الضريبي، وعدم تفعيل جباية ضريبة الدخل على جميع المواطنين، ما يوفر معلومات عن المستوى الاقتصادي لجميع المواطنين وليس الموظفين الحكوميين فقط، وبالتالي لا يستطيع أحد التحايل على الحماية الاجتماعية، ويتابع: "في حال جرى تفعيل الأمر ستتوفر أموال تكفي لشمول جميع الفقراء في نظام الحماية الاجتماعية".
وبلغت نسبة العراقيين تحت خط الفقر 25% من إجمالي السكان البالغ عددهم 43 مليون نسمة، وفق المركز الاستراتيجي لحقوق الإنسان في العراق (غير حكومي) في يوليو/تموز 2024. بينما وصل عدد المستفيدين من راتب الإعانة الاجتماعية حتى منتصف العام الجاري، إلى سبعة ملايين و600 ألف شخص في بغداد والمحافظات بمبلغ إجمالي 470 مليار دينار (365 مليوناً و262 ألف دولار)، وفق ما يؤكده لـ"العربي الجديد"، مدير شعبة الإعلام في هيئة الحماية الاجتماعية، حسام ستار حسن.
بينما يحرم المستحقون من شمولهم في نظام الإعانة الاجتماعية، كما هو حال خمسة مواطنين وثقت معدة التحقيق معاناتهم، يتمكن البعض من الحصول على الإعانات بعد دفع رشوة لموظفين في هيئة الحماية الاجتماعية، وهو ما يؤكده موقع هيئة النزاهة الاتحادية (مختصة بمكافحة الفساد والشفافية في إدارة شؤون الحكم)، والتي تمكن فريقها بمكتب محافظة ذي قار جنوبي العراق في أغسطس/آب 2024 من ضبط موظف في هيئة الحماية الاجتماعية على خلفية طلبه رشوة مقابل تمرير معاملة أحد المواطنين المتوقفة منذ وقت طويل، وكان المتهم متلبساً بحيازة مبلغ الرشوة الذي تسلَّمه من المُواطن، والبالغ 500 ألف دينارٍ (388 دولاراً) دفعةٍ أولى، على أن يتم دفع بقية المبلغ البالغ أربعة ملايين دينار (3110 دولارات) عند إطلاق الراتب".
يتورط موظفون في هيئة الحماية الاجتماعية في طلب رشى لتمرير الإجراءات
ويتورط موظفون كبار في هيئة الحماية الاجتماعية بتسهيل إجراءات حصول غير المستحقين على راتب الاعانة الاجتماعية، كما هو الحال مع مدير سابق لدائرة هيئة الحماية الاجتماعية في كربلاء (وسط)، تم ضبطه من قبل ملاكات مكتب تحقيق كربلاء التابع لهيئة النزاهة في التاسع من أكتوبر/ تشرين الأول 2019، على خلفية محاولته تسوية ملفات خاصة برواتب الإعانة الاجتماعية لـ 216 مستفيدة رغم صدور قرار اللجنة العليا للحماية الاجتماعية بعدم شمولهن بالراتب.
ويتسبب ذلك في تأخير شمول المستحقين لأعوام، ومن بينهم العشرينية هبة الجنابي التي تحاول مع زوجها الحصول على مرتب الإعانة الاجتماعية منذ سنتين، لكن دون فائدة وتقول: لـ"العربي الجديد": "أُقرت سبع وجبات (راتب الإعانة الاجتماعية) ولم نكن ضمنها رغم أننا نعيش في غرفة ببيت والد زوجي الذي يعمل في مهنة البناء المعروفة بتذبذب دخل العاملين، وفي حال كان لدينا دخل ثابت سنتمكن من سحب قرض لبناء منزل صغير".
خلال بحث معدة التحقيقات عن حالات لم تحصل على راتب الرعاية الاجتماعية رغم استحقاقها، وجدت ثلاث أخوات في منطقة سهل نينوى شمالي العراق، يعملن في تربية وبيع دجاجات قليلة ويعانين شظف العيش حتى إنهن أحياناً يبحثن عن طعامهن في أكياس القمامة، ما دفعهن إلى اللجوء بعد أربع سنوات من محاولتهن لشمولهن في الإعانة الاجتماعية إلى حزب سياسي (فضلن عدم ذكر اسمه لعدم التعرض لمشاكل أمنية) لاستكمال إجراءات إطلاق معاملتهن المتوقفة منذ عام 2018، مقابل التصويت لمرشحه في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة التي أجريت في يناير/كانون الثاني 2023.
أي أن من ساومهن "يحاول الصعود على أكتاف الفقراء سياسياً"، يقول المرشح لانتخابات مجالس المحافظات ضمن تحالف "قيم المدني" (المظلة الانتخابية لقوى التغيير الديمقراطية)، عمار الحيالي، موضحاً أن مرشحين يستغلون المعوزين رغم أنهم من مستوفي شروط الحصول على راتب الإعانة الاجتماعية، ويساومونهم على أصواتهم، حتى باتت بطاقات الرواتب تصدر من مكاتب المرشحين، ما يعكس ضعفاً واختراقاً لهيئة الحماية الاجتماعية من أصحاب المال السياسي".
ما ذهب إليه الحيالي تؤكده هيئة النزاهة التي قالت في بيان بعد اجتماع مع وزارة العمل والشؤون الاجتماعية نشرته على موقعها في 19 إبريل/نيسان 2012 أن بعض المرشحين للانتخابات، يستغلون شبكة الرعاية الاجتماعية في دعم مكانتهم عند مرشحيهم للحصول على أصواتهم، إذ عمد أحدهم إلى توزيع 2000 استمارة طلب شمول برواتب الرعاية الاجتماعية على معارف وأعضاء حزبه لضمان أصواتهم وليس لمن يستحقها، لتؤكده الهيئة مجددا في إعلانها عن نتائج متابعة دوائر هيئة الحماية الاجتماعية في بغداد والمحافظات في 25 سبتمبر/أيلول 2024، والتي أشارت إلى "قيام أعضاء في مجلس النواب بإرسال قوائم بأسماء المُتقدّمين؛ للحصول على راتب الحماية عن طريق التقديم الورقي وتمييزهم عن التقديم الإلكتروني وحضور مُخوّلين من مكاتب النواب؛ لغرض مُتابعة مُعاملات الشمول"، وهو ما يعيده الحيالي إلى ضعف الدولة، قائلاً لـ"العربي الجديد": "عمل هيئة الحماية الاجتماعية بصورة صحيحة سيفوت الفرصة على المال السياسي وأصحاب النفوذ ممن يحققون عدداً كبيراً من الأصوات في مقابل الحركات المدنية التي لا تمتلك المال السياسي ولها رؤية مختلفة في إدارة الدولة".
وبينما يقبل البعض تلك المساومات، رفض مواطنان الانصياع لمرشح ابتزهما وطالبهما بالتصويت له مقابل حصولهما على راتب الرعاية الاجتماعية، أحدهما قاسم تركي (29 عاماً) من ريف محافظة المثنى جنوبي العراق، والذي قال لـ"العربي الجديد": "الباحث الاجتماعي الذي أشرف على حالتي كان مرشحاً للانتخابات، وقال لي بالحرف الواحد (انتخبوني وأرفع معاملتكم)، ولم أستجب، لأن توجهاتي تخالف توجهاته، رغم حاجتي لراتب الإعانة بسبب فشل زراعة أرض استأجرتها مع أخي، جراء شح المياه في البلاد، وللأسف يقف ملفي منذ عامين".
ومثله الأربعيني أحمد عبد الحسن، الذي يدرك تماماً أن حصوله على مرتب الحماية الاجتماعية في المحافظة ذاتها الأشد فقراً، متوقف على زيارته مكتب نائب برلماني أو مرشح وقت الانتخابات، لكنه امتنع عن ذلك حتى لا يضطر لانتخاب شخص لا يقتنع به، كما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفا أنه حاول منذ عامين الحصول على مصدر دخل ثابت يساعده في توفير احتياجات عائلته، لكن دون جدوى، ويتابع: "لو أن هناك وعياً كافياً لاختيار ذوي الكفاءة لما اضطررنا للجوء إلى شخصيات فاسدة لينتزعوا لنا حقوقنا، ولما تمكّن المرشحون من خداع الناخبين".
تقدم 42 ألف شخص باعتراض إلى هيئة الحماية الاجتماعية لعدم شمولهم في نظام الحماية الاجتماعية، خلال عامي 2023 و2024، حسب تأكيد مدير شعبة الإعلام في هيئة الحماية الاجتماعية الذي قال: "سيُشمل المعترضون في الحماية الاجتماعية بمجرد توفر المخصصات المالية الكافية، لكننا لا نعلم متى سيكون ذلك"؟
ما سبق من تبريرات، تجعل المستحقين يحجمون عن التقدم باعتراضات إلى هيئة الحماية الاجتماعية، كما تقول مصادر التحقيق، ومنهم الثلاثيني علي عبد الرضا الذي لم تشفع له حالته الاقتصادية المتردية ولا البيت المتهالك الذي يسكنه في أطراف بغداد بالحصول على الإعانة الاجتماعية، "رغم إقرار الباحث الاجتماعي الذي زار منزلي قبل عامين، بأن عائلتي معدومة الدخل واستغرب كيف نسكن في هذا البيت المتهالك"، حسبما يقول لـ"العربي الجديد"، مضيفاً: "نخشى أن يقع علينا هذا السقف، لو أني مشمول بالإعانة الحكومية لاستأجرتُ بيتاً واستطعت إطعام زوجتي وأمي المريضة".