ما الذي يخشاه العراق من سورية الجديدة؟
قيل (من بين ما يقال في هذه الأيام وهو كثير)، إن رئيس الوزراء العراقي الأسبق، نوري المالكي، كان يقيم في دمشق في ثمانينيّات القرن الماضي، بوصفه أحد المعارضين للنظام العراقي آنذاك، وإنه كان على خلاف في تفاصيل كثيرة مع القيادة السورية وقتها، ولم يأتمر بأمرها، وكثيراً ما كان يرفض الذهاب إلى فروعها الأمنية في بعض حالات الاستدعاء. هذا الذي يُقال يُراد منك أن تصدّقه، وأن تؤمن بأن نظام حافظ الأسد كان يسمح لمعارضي أنظمة أخرى، ومنها العراق، أن يقيموا في أرضه من دون أن يكونوا جزءاً من منظومته التجسّسية والأمنية، التي تعمل ضدّ تلك الأنظمة. وقبل هذا الذي قيل بأيام قليلة، ومع سقوط نظام بشّار الأسد (8 ديسمبر/ كانون الأول 2024)، بدأت تُنشَر وثائقُ سرّيةٌ من بعض مكاتب فروع الأمن السورية، وتحديداً في دمشق، تتحدّث عن تجنيد عملاءَ لتلك الفروع، اتّضح أن من بينهم معارضين عراقيين عديدين في سورية خلال ثمانينيّات القرن المنصرم وتسعينياته، قبل أن تبدأ الإدارة السورية الجديدة بوضع يدها على تلك الوثائق، لأنّها حتماً ستكون مفيدة في مرحلة ما.
التغيير في سورية سيفرض تحدّيات كبيرة على دول الجوار، خاصّة إذا نجح السوريون في تأطير ثورتهم ديمقراطياً
في العراق حديث عن مخاطر شديدة قد يتعرّض لها بسبب سقوط النظام السوري السابق والتغيير الذي حصل، ويسرد الساسة العراقيون (حكوميون وحزبيون)، سلسلةً طويلةً من تلك المخاطر والتهديدات، تبدأ من تسلّم السلطة في دمشق من مجموعة تراها بغداد "إرهابيةً"، وأن زعيمها كان أحد عناصر "القاعدة" ثمّ تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وصولاً إلى الحديث عن مخيّم الهول والسجون التي تقع تحت سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، التي تضمّ عناصر تنظيم داعش، والمخاوف من أن إطلاق سراحهم، وما يمكن أن يسبّبوه من مشكلات أمنية للعراق الذي اشترك مع سورية في التعامل مع هذا التنظيم، الذي لا يبدو أنه انتهى بالكلّية. وتفيض وسائل الإعلام العراقية الموالية للنظام، ومن خلف النظام إيران، بشرح يومي للمخاطر والتحدّيات التي سيتعرّض لها العراق، خاصّة إذا أخفقت الإدارة الجديدة في التعامل مع ملفّ الأقليات في سورية، وانعكاس ذلك في الواقع العراقي تهديداً واضحاً لمكوّن عراقي كبير، وهم العرب السنّة، لكنّ أبواق السلطة لا ترى فيهم سوى أقلّية.
وأنت حينما تستمع لحديث العراقيين من ساسة حزبيين وحكوميين وهم يتحدّثون عن ضرورة احترام الإدارة السورية الجديدة للأقلّيات، تشعر وكأنّ العراق يعيش في بحبوبة من تشاركيةٍ بلا إقصاء أو تهميش، وليس العراق الذي نعرفه، الذي احتكرت فيه السلطةَ مجموعةُ أحزاب موالية لإيران تحديداً، وحيّدت وحاربت حتى التيّار الصدري (ناهيك عن السنّة والأكراد)، الذي فاز في المركز الأول بانتخابات 2021، ووصل الأمر إلى حدّ الاشتباكات المسلّحة في المنطقة الخضراء قبل أكثر من عامَين، وصولاً إلى دفع التيّار الصدري إلى الانسحاب من العملية السياسية، وترك المجال لأحزاب السلطة الحاكمة اليوم، التي أقلّ ما يمكن أن توصف به أنّها موالية لإيران. الزلزال السوري كان مدوّياً وسمعت أصوات دويه في بغداد بوضوح، كما سُمعت في طهران، وبالتأكيد أن هذا التغيير في سورية سيفرض تحدّيات كبيرة على دول الجوار والمنطقة عموماً، خاصّة إذا ما نجح السوريون في تأطير ثورتهم المباركة بتجربة ديمقراطية خالية من الشوائب التي تعوق تقدّمها، ولكن مع ذلك يبدو أن قصّة العراق في مخاوفه تختلف عن تلك التي تردّدها الألسن الموالية للسلطة.
تتعلق بعض الوثائق، التي عُثر عليها في الأيام الأولى لسقوط نظام الأسد، بتجنيد العملاء. والعملاء هنا ليسوا من السوريين فقط، وإنّما حتى الذين كانوا يقيمون في سورية، وفي مقدّمة هؤلاء مجموعة كبيرة من العراقيين الذين أقاموا في دمشق خلال ثمانينيّات القرن المنصرم وتسعينياته، وليت الأمر توقّف عند هذا الحدّ، فدولة بوليسية محكومة بالحديد والنار قد لا تملك (وأنت المعارض نظام بلدك) إلّا أن تستجيب لطلبها تحت ضغط التهديد أو طلباً لمنفعة ما، إلّا أن الأمر تعدّى ذلك كلّه. بعض الوثائق التي تسرّبت تشير إلى ما قدّمه العراق من أموال طائلة لدعم النظام السوري عقب اندلاع الثورة عام 2011، أموال كانت تُنقل عبر شاحنات خاصّة، بالإضافة إلى وثائق أخرى تشير إلى نقل العراق أسلحةً وموادَّ سامّةً إلى النظام، ربّما يكون قد استخدمها ضدّ الشعب السوري، طبعاً نحن نتحدّث عمّا كُشِف قبل أن تضع الإدارة السورية الجديدة يدها على ملفّات أكثر حساسيَةً وسرّيةً.
سيتّخذ العراق موقفه إزاء سورية بناءً على ما تريده إيران أولاً
يشترك العراق وسورية بحدود تبلغ 610 كيلومترات، فضلاً عن مشتركات دمغت العلاقة بين البلدين طيلة عقود خلت، منها الاتهامات التي وجهها العراق إلى سورية بشّار الأسد بدعم الإرهاب عام 2009، ووصل الأمر إلى رفع شكوىً في الأمم المتحدة، قبل أن يصطفَّ النظام العراقي إلى جانب الأسد بعد اندلاع الثورة، وصولاً إلى سيطرة "داعش" على جزء كبير من المناطق السورية والعراقية لإقامة دولتهم. ومع ذلك، لم يكلّف وزير خارجية العراق نفسه رفع سمّاعة الهاتف للاتصال بالإدارة السورية الجديدة، وبدلاً من ذلك أُوفِد رئيس جهاز المخابرات، حميد الشطري، الذي تَسلَّم منصبه مع سقوط نظام الأسد، إذ تباحث على ما يبدو في ما لدى الإدارة الجديدة بدمشق من وثائق.
سيتّخذ العراق موقفه إزاء سورية بناءً على ما تريده إيران أولاً، وهذا مفروغ منه، فالعراق اليوم حائط الصدّ الأخير للنظام الإيراني، وأيضا بناءً على التفاهمات مع الجانب السوري بخصوص كمٍّ هائلٍ من وثائق تدين النظام السياسي في العراق ورموزه، وبتقديري، ستكون تلك الوثائق مصدر قوة لدى السلطة الجديدة في دمشق لترتيب وضعها، ليس مع العراق فحسب، وإنّما مع دولٍ كثيرة.