"الجلوة"... عقاب عشائري أقوى من الدولة العراقية
رغم أنها تراجعت لا تزال عقوبة "الجلوة" مطبقة في بعض محافظات العراق، خصوصاً في مناطق الوسط والجنوب حيث تتركز النزاعات العشائرية بتأثير ضعف سلطة الأمن والقانون والاحتكام إلى الأعراف بدلاً من اللجوء إلى المحاكم. وتعمل بعض العشائر بمبدأ "الجلوة" رغم أن قراراتها قاسية وتقضي بإجلاء مرتكبي الجرائم أو خطايا معينة مع أفراد عائلاتهم، وأحياناً أعمامهم وأخوالهم، ما يُعرض عائلات عدة لجور وإجحاف.
"الجلوة" عقوبة قبلية وعشائرية تطبّق على من يرتكب جريمة قتل أو سرقة، أو أعمالاً غير أخلاقية أو غير شرعية، وتكثر في الأرياف كما توجد في المدن. وتقضي أحكام الجلوة بترحيل ذوي الجناة وأسرهم، وأحياناً أقربائهم من الدرجتين الثانية والثالثة. وتتطور الأحكام في بعض الأحيان لتصل إلى إجلاء أقرباء الجناة حتى الدرجة الخامسة من مساكنهم إلى مناطق أخرى، لمدة قد تزيد عن 15 عاماً أو أكثر أحياناً، بحسب العرف العشائري.
ورغم أن مجلس القضاء الأعلى اتخذ عام 2018 موقفاً حازماً من بعض الأحكام العشائرية التي تتسبب في الرعب وتهدد السلم المجتمعي، والتي اعتبر أن "مرتكبيها يجب أن يحاكموا وفق قانون مكافحة الإرهاب، لكنه لم يتطرق إلى "الجلوة" العشائرية بشكل صريح، ولم يصدر أي قرار في شأنها.
وفي مدن عراقية عدة تسببت عقوبة "الجلوة" العشائرية بترحيل وتهجير آلاف العائلات من محافظاتهم الأصلية إلى أخرى. ووصلت بعض العقوبات إلى حدّ خروج الخاضعين لها من العراق بالكامل بسبب الملاحقات وارتباط العقوبات بالثأر.
وتُعتبر النزاعات العشائرية في مناطق وسط العراق وجنوبه من بين أهم المشكلات الأمنية، وتترافق أحياناً مع مواجهات مسلحة تُوقع قتلى وجرحى بين عشائر مختلفة. وتتعلق غالبية هذه النزاعات بمشكلات حول الأراضي الزراعية وحصص المياه، وتستخدم فيها أحياناً أسلحة متوسط وقذائف هاون وقذائف صاروخية محمولة على الكتف.
ويتصدر ملف الصراعات القبلية جنوب العراق اهتمامات رئيس الوزراء الجديد محمد شياع السوداني، إلى جانب ملف الخدمات، حيث يستمرّ تسجيل ضحايا ومصابين في المحافظات الجنوبية والوسطى نتيجة النزاعات العشائرية المسلحة التي يستدعي بعضها تدخل قوات الجيش لفضها. أما "الجلوة" فتبقى عقوبة لا ترتبط بالسلاح، بل بالتهديد والإجبار، وهي لا تخضع لما يُعرف بـ"الكعدات"، أي النقاشات الطويلة بين وجهاء وبعض شيوخ العشائر، وبين قوات الأمن أو السلطات القضائية.
ويقول ضابط من محافظة ميسان (جنوب)، رفض كشف اسمه، لـ"العربي الجديد": "الجلوة عقوبة نهائية بالنسبة إلى بعض الجرائم أو تلك المرتبطة بالشرف، ونسمع بها بعد حصولها عادة، في حين لا نملك أوامر أمنية بمنعها عبر تنفيذ تدخل مسلح. الحقيقة أن هذه العقوبة قاسية خصوصاً أنها تستهدف أحياناً عشر عائلات وأكثر بسبب حادث يرتكبه شخص واحد. والقوات الأمنية والسلطات القضائية تركز على المظاهر المسلحة التي تخلفها النزاعات".
يضيف: "تتلقى السلطات الأمنية نداءات استغاثة بما يُعرف بالجلوة، لكنها لا تتدخل إلا عبر قرارات قضائية من المحاكم. وبما أن المتضررين من الجلوة لا يقدمون شكاوى إلى القضاة فلا تستطيع الأجهزة الأمنية بالتالي التدخل رغم أن الجلوة حكم جائر".
من جهته، يقول محسن حبيب، وهو أحد وجهاء عشيرة "البو محمد" في جنوب العراق، لـ"العربي الجديد"، إن "الجلوة حكم عشائري قديم ويُطبق في عدد من الدول العربية وليس فقط في العراق، وهو لا يشمل كل المتورطين في أعمال شريرة، بل يرتبط بأعمال تجلب العار إلى أصحابها، لذا يُعتبر وسيلة لإنقاذ عائلة الجاني في بعض الأحيان، لأنها تدفعها إلى الانتقال إلى منطقة أخرى، وهذا حكم أفضل لها من البقاء في المنطقة التي تسكن فيها كي لا تعيش مدة طويلة في العار".
يتابع: "تؤيد كل العشائر تقوية نفوذ الدولة، لكن الأحكام العرفية تبقى جزءاً لا يمكن إنكاره من الثقافة العراقية. الأحكام العرفية لدى العشائر ليست ظالمة أو جائرة، بل تستند إلى المبادئ العربية القديمة، إضافة إلى الدين الإسلامي، والاعتراض على الجلوة قائم على أنها تشمل عائلات عدة أحياناً بسبب شخص واحد، وهو ما نحاول حصره في غالبية الأحيان".
وتشير الناشطة والحقوقية نور الهنداوي، في حديثها لـ"العربي الجديد"، إلى أن "الجلوة حكم جائر يتعارض مع مفاهيم حقوق الإنسان، وتشمل عادة عائلات عدة يجري طردها من مكان إقامتها تحت التهديد إلى مناطق أخرى. ومن واجب الدولة أن تضع حداً لهذه العقوبات العرفية، لا سيما أن الدستور ينص على النهوض بواقع القبائل والعشائر، والاهتمام بشؤونها بما ينسجم مع الدين والقانون وتعزز قيمها الإنسانية لتطوير المجتمع، مع منع الأعراف العشائرية التي تتنافى مع حقوق الإنسان".
وتعتبر أن "قوة العشائر تعني أن الدولة والقانون ضعيفان، والجلوة شكل من أشكال هيمنة الأعراف القبلية على سيادة القانون والقضاء. وتُضاف إلى هذه العقوبة عقوبات عرفية تؤثر على الوضع الاقتصادي، مثل الفصل العشائري الذي ينص على دفع مبالغ مالية يكون مبالغاً بها عادة، إضافة إلى أحكام تسيء إلى المرأة، مثل الفصليات التي تعني تزويج امرأة أو مجموعة نساء إلى عشيرة أخرى من دون طلب آرائهن أو سماع موافقتهن أو رفضهن". وتؤكد أن "الجلوة تتراجع وانتهت فعلياً في بعض المدن، لكنها لا تزال رائجة في مدن أخرى تحديداً في جنوب العراق. وأحياناً تكون أحكام القبائل تعسفية ولا تنتبه إليها السلطات والحكومة".
وتتصدر ذي قار والبصرة وميسان وواسط ثم بغداد المحافظات الأكثر تسجيلاً للنزاعات العشائرية التي يذهب ضحيتها مواطنون، وتتسبب في كثير من الأحيان في فرض حظر تجول، وإغلاق قوات الأمن الطرقات والمناطق ، كما تلحق خسائر مادية بالممتلكات العامة والخاصة إثر اندلاع اشتباكات باستخدام أسلحة متوسطة وخفيفة وقنابل، وأيضاً عبوات ناسفة محلية الصنع.