هدف تركيا من المنطقة العازلة جعل "الكردستاني" مشكلة عراقية
جاءت تصريحات وزير الدفاع التركي يشار غولر، الأربعاء الماضي، بشأن توجه بلاده لإقامة المنطقة العازلة في العراق بعمق 40 كيلومتراً، بمثابة "الإعلان المتأخر" عن المشروع، الذي بدأ فعلياً منذ مطلع العام الحالي في مناطق عراقية حدودية ضمن إقليم كردستان. غولر الذي دخل مناطق حدودية عراقية خاضعة لسيطرة الجيش التركي مرتين خلال أقل من عام واحد لتفقد قواته، كان آخرهما منتصف مارس/آذار الماضي، أكد في مقابلة مع مجلة "بوليتيكو" الأميركية في العاشر من يوليو/تموز الحالي، أنهم "عازمون على إنشاء ممر أمني بعمق 30 إلى 40 كيلومتراً على طول حدودنا مع العراق وسورية وتطهير المنطقة بالكامل من الإرهابيين". وشدّد على أنه "سنواصل العمليات حتى يتم تحييد آخر إرهابي". والمسافة التي حددها غولر تعني أن سلسلة جبال كاره العراقية، شمالي محافظة دهوك، ستكون منطقة منزوعة السلاح خاضعة للجيش التركي.
كما أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قال في إسطنبول، السبت الماضي، إن حزب العمال الكردستاني أصبح غير قادر على التحرك داخل حدود تركيا، وبات محاصراً تماماً في العراق وسورية. وفي إشارة إلى عملية "المخلب - القفل" (العملية التركية في شمال العراق)، قال أردوغان: "سنغلق القفل بمنطقة عملية المخلب في شمال العراق قريباً جداً". وأضاف: "مصممون على عدم السماح لأي كيان على طول الحدود العراقية والسورية من شأنه أن يشكل تهديداً لبلدنا". ومنذ أسابيع تشتد حدة المعارك داخل الأراضي العراقية الحدودية مع تركيا، خصوصاً في مناطق سوران، وسيدكان، والزاب، وضواحي العمادية، وزاخو، ومتين، وكاره، وكاني ماسي، شمال أربيل وشرقي دهوك. وتتضمن العمليات العسكرية التركية قصفاً مكثفاً بالطائرات الحربية والمسيّرة، إلى جانب القصف المدفعي، وعمليات الإنزال الجوي التي تنفذها قوات النخبة التركية.
نقيب في البشمركة: بات "الكردستاني" يشكل خطراً على أمن واستقرار كردستان
ووفقاً لثلاثة مسؤولين في اللواء 80 بقوات البشمركة الكردية، تحدثت معهم "العربي الجديد"، فإن عمليات الجيش التركي أسفرت عن مقتل وإصابة العشرات من مسلحي حزب العمال الكردستاني وتدمير مقرات وأنفاق تابعة له. كما برز تطور جديد وهو ضرب سيارات وشاحنات متجهة إلى معاقل "الكردستاني"، في مناطق سيطرته التقليدية، يُشتبه في أنها كانت تحمل أسلحة ومعدات لوجستية لمسلحي الحزب، وهو ما يضع محافظة السليمانية الأقرب سياسياً من حزب العمال الكردستاني على قائمة الأهداف التركية، إذ يسيطر حزب الاتحاد الكردستاني بزعامة بافل الطالباني على المحافظة، وقررت تركيا منذ أكثر من عام فرض حظر على مطار السليمانية الدولية.
وقال ضابط برتبة مُقدم في البشمركة ضمن اللواء 80، الذي يسعى إلى وقف تمدد مسلحي "الكردستاني" إلى مناطق سكنية جديدة في محافظة دهوك، إن هناك "نزيفاً" داخل "الكردستاني" أكثر من أي وقت. وأضاف في حديثٍ لـ"العربي الجديد" أن "الجيش التركي، أجبر الحزب منذ نهاية مارس الماضي، على التراجع لمسافات كبيرة تصل إلى 20 كيلومتراً داخل العمق العراقي، وخسر تقريباً أغلب مناطق جبل كاره وقمة جبل متين، كما سيطر الجيش التركي بشكل شبه كلي على مرتفعات منطقة كيسته". وأكد عدم تسجيل أي خسائر بشرية بين المواطنين والسكان القرويين العراقيين الأكراد، كون السكان نزحوا من 62 قرية خلال الفترة الأخيرة.
من جهته، ذكر نقيب من القوة ذاتها المرابطة في ضواحي محافظة دهوك، لـ"العربي الجديد"، أن "الكردستاني اعتقل عدة مدنيين، بتهمة التجسس، وتجري حالياً مفاوضات بين ذويهم والحزب لإطلاق سراحهم، أحدهم من عشيرة الهركي الكردية الساكنة في مناطق متاخمة لمناطق نشاط الكردستاني"، معتبراً أن الحزب بات "يشكل خطراً على أمن واستقرار السكان في الإقليم". ونفذ الجيش التركي وفقاً للنقيب، الذي طلب عدم الكشف عن هويته، عمليات تجريف واسعة في المنطقة الحدودية العراقية مع تركيا، شملت عدة غابات وكذلك جيوباً وتجويفات جبلية، وفتح طرقاً جديدة، منذ عدة أشهر، وأقام ثكنات ومعسكرات داخل العراق، وهو ما يؤشر إلى بدء الأتراك مشروع المنطقة العازلة في العراق مبكراً، وليس مع إعلان الوزير التركي يشار غولر. وأكد تقرير لمحطة تلفزيون رووداو، الكردية المقربة من الحكومة في إقليم كردستان العراق بأربيل، أن القوات التركية شيدت 36 نقطة عسكرية ثابتة داخل حدود إقليم كردستان العراق، منذ مطلع العام الحالي، ضمن عمليات مكافحة أنشطة "الكردستاني" الذي يتخذ من الأراضي العراقية منطلقاً لتنفيذ اعتداءات مسلحة وتفجيرات داخل تركيا.
أحرج التوغل الأخير للقوات التركية داخل الأراضي العراقية حكومة بغداد
تسعى تركيا قبل حلول الشتاء المقبل إلى إنشاء المنطقة العازلة في العراق لفرض سياسة الأمر الواقع على بغداد، بما يجعل حزب العمال الكردستاني مشكلة عراقية، وليست تركية، إذ تمتد المنطقة العازلة في العراق من منطقة فيشخابور، وهو المثلث العراقي السوري التركي الذي تقابله سورياً الحسكة، وعراقياً زاخو وتركياً شرناق، وهذه المنطقة هي أضيق منطقة جغرافية وأكثرها سهولة من جهة التضاريس المكشوفة، مقارنة بالشريط الحدودي الذي يليها. تكمن أهمية المنطقة العازلة في العراق بأنها ستقطع الاتصال بين قوات سوريا الديمقراطية "قسد" في سورية، ومسلحي حزب العمال الكردستاني في العراق.
في المقابل، فإن الممر الأمني سيتواصل باتجاه الشرق صعوداً إلى محافظة دهوك ضمن إقليم كردستان العراق، والذي يشمل بالتتابع الجغرافي مناطق: باتيفيا، بامرني، العمادية، درلوك، شيلادزي، بارزان، سوران، سيدكان. هذه المناطق تمتد إلى الحدود التركية، وهي مراكز أقضية ومدن عراقية، لها امتدادات جبلية وعرة ضمن الحدود، وفيها ستكون سلسلة جبال كاره، ومتين، وسوركه، وسلكا وزيت، ضمن خطة المنطقة الآمنة للجيش التركي، إذ إنها المناطق الأكثر خطورة ومنها تنطلق عمليات التسلل والهجمات التي ينفذها الكردستاني داخل الأراضي التركية. لكن العمليات العسكرية منذ أيام تتركز عند جبل كاره العراقي الحدودي، الذي يرتفع عن مستوى سطح البحر بنحو 2250 متراً، ويربط بين أقضية عقرة والعمادية وزاخو لمسافة 38 كيلومتراً. وتوجد على سفوح الجبل 94 قرية بينها 55 قرية أخليت عام 1996 نتيجة القصف والاجتياح التركيين للمنطقة وبقيت 39 قرية فقط في محيط الجبل، وهو ما يؤكد مضي الأتراك بسلسلة عمليات لإنشاء المنطقة العازلة في العراق وتطهيرها من مسلحي حزب العمال الكردستاني.
وقال الخبير بالشأن العراقي الكردي، الضابط السابق بقوات البشمركة الكردية، عثمان أمين هورامي، لـ"العربي الجديد"، إن سلسلة جبال قنديل سيتم تحييدها بشكل طبيعي، إذا انتهت تركيا من المنطقة العازلة في العراق. ويشرح هورامي أن نقطة قوة "الكردستاني" منذ عام 1991 في منطقة حدودية عراقية إيرانية تركية، لها حسابات سياسية معقدة (سلسلة جبال قنديل)، وهي لن تكون أكثر من مشكلة عراقية داخلية وهذا ينطبق على سنجار، غربي الموصل. وأضاف هورامي أن "القوات التركية ستلجأ إلى القصف الجوي في قنديل وسنجار، وهذا واضح، لكن برياً سيكون العزل الحدودي مع العراق، بمثابة عزل جغرافي للكردستاني عن الأراضي التركية"، معتبراً أن "بغداد تتحمل مسؤولية ذلك، وقريباً سيكون الحزب مشكلة للعراق أكثر من كونه مشكلة لتركيا". ولم يستبعد هورامي أن تضع أنقرة خطة تدريجية لإعادة المنطقة العازلة في العراق إلى سلطة بغداد تدريجياً، إذ إنها لا تفكر في البقاء فيها، بقدر ما تسعى إلى نزع سلطة "الكردستاني" منها.
ويوم الجمعة الماضي، قال وزير الخارجية العراقية فؤاد حسين إن بلاده لا تمتلك أي اتفاق مع الجانب التركي بشأن تحركاته العسكرية الأخيرة ضد مقاتلي حزب العمال الكردستاني داخل الأراضي العراقية، مؤكداً حرصها على إيجاد حلول سياسية للملف بدلاً من الحل العسكري، فيما طُرحت إمكانية استنساخ تجربة "المعارضة الإيرانية في العراق" التي تمت باتفاق بين بغداد وطهران. ونفى حسين وجود "أي ضوء أخضر من الجانب العراقي للأتراك بشن عملية عسكرية شمالي العراق"، مبيناً في تصريحات لمحطة الحرة الأميركية الخميس الماضي، أن "الجيش التركي موجود داخل الأراضي العراقية منذ عام 1991 في بعض مناطق محافظة دهوك، وأن مسألة وجود الجيش التركي ستكون نقطة تتم مناقشتها خلال اجتماعات تعقد مع المسؤولين الأتراك قريباً".
وأضاف: "خلال نقاشاتنا مع الجانب التركي لم نصل حتى الآن إلى اتفاق حول الملف الأمني"، مشيراً إلى أن "الأتراك يربطون وجود قواتهم داخل الأراضي العراقية بوجود حزب العمال الكردستاني، وأن هذه المشكلة (الكردستاني) هي مشكلة تركية وحالياً أصبحت عراقية أيضاً، وبالتالي يجب التعامل معها بالطريقة العراقية". وشدد الوزير العراقي على "أننا لا نؤمن بحل المشاكل عبر العنف. لقد توصلنا مع الجانب الإيراني لمجموعة من الاتفاقات في ما يتعلق بالأحزاب المسلحة المعارضة له في الإقليم، وممكن تطبيق النموذج نفسه مع تركيا والكردستاني"، مشيراً إلى أنه "جرى تحويل بعض أعضاء هذه الأحزاب الإيرانية المعارضة إلى مخيمات اللجوء وآخرين سافروا إلى خارج العراق".
عثمان أمين هورامي: لا أستبعد تسليم تركيا المنطقة العازلة للعراق لاحقاً
وأحرجت التحركات العسكرية التركية والتوغل الأخير للقوات التركية داخل الأراضي العراقية، الحكومة العراقية، الأمر الذي تسبب بتناقض في التصريحات الحكومية بشأنها، إذ كان مستشار رئيس الوزراء العراقي إبراهيم الصميدعي، قد كشف قبل أيام أن هناك تنسيقاً بين الحكومة العراقية والتركية بخصوص العمليات العسكرية للجيش التركي في إقليم كردستان، مؤكداً أن حزب العمال الكردستاني يقوم بعمليات إجرامية، وأن الحكومة العراقية صنفته منظمة إرهابية، والعمليات التركية تجري وفق تنسيق بين بغداد وأنقرة. ويمثّل ملف مسلحي "الكردستاني" الذي ينشط داخل العراق ويتخذه منطلقاً لشن اعتداءات متكررة داخل تركيا، العقدة الأبرز في المباحثات بين تركيا والعراق. لكن تقدماً واضحاً تحقق هذا العام بعد اعتبار العراق "الكردستاني" منظمة محظورة، والتعهد بالعمل مع تركيا في هذا الإطار. وشهد العراق وتركيا عدة مباحثات عسكرية وأمنية خلال العام الحالي، كان أبرزها خلال زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى بغداد، في إبريل/نيسان الماضي، على رأس وفد وزاري كبير، بحث فيه عدة ملفات تتعلق بحزب العمال الكردستاني ونشاطه داخل العراق وضرورة منع بغداد اتخاذ الأراضي العراقية منطلقاً لشن اعتداءات على جيرانه.
كما شهدت بغداد وأنقرة زيارات ولقاءات متكررة بين وزراء الدفاع والخارجية لكلا البلدين، أبرزها في مارس الماضي أجراها وفد تركي زار العراق وضم وزير الخارجية هاكان فيدان، ووزير الدفاع يشار غولر، ورئيس جهاز الاستخبارات التركي إبراهيم قالن، مع قيادات عسكرية وأمنية. وعقد الوفد سلسلة اجتماعات مع العراقيين، كان أبرزها اجتماع مغلق دام لأكثر من ثلاث ساعات، مع وزيري الخارجية فؤاد حسين والدفاع ثابت العباسي، ومستشار الأمن القومي قاسم الأعرجي، ورئيس "هيئة الحشد الشعبي" فالح الفياض. وبحسب بيان مشترك صدر عقب اللقاء في 14 مارس الماضي، فقد اتفق الجانبان على "تشكيل لجان دائمة مشتركة في مجالات مكافحة الإرهاب"، كما أكد البيان على اعتبار "حزب العمال الكردستاني منظمة محظورة، وأن وجوده على الأراضي العراقية هو خرق للدستور".
ومنذ منتصف عام 2021، تستهدف العمليات العسكرية التركية البرية والجوية مقرات ومسلحي "الكردستاني" في الشمال العراقي، وتحديداً في مناطق ضمن إقليم كردستان، وتقع أغلبها بمحاذاة الحدود مع تركيا، التي يتخذ الحزب منها منطلقاً لشن اعتداءات مسلحة في الداخل التركي. وأدت عمليات القوات التركية خلال السنوات الثلاث الماضية إلى مقتل المئات من مسلحي "الكردستاني"، وتدمير مقرات ومخازن سلاح ضخمة تابعة للحزب، وفقاً لبيانات وزارة الدفاع التركية، كما أسهمت في انحسار واضح للمساحة التي كان الحزب ينتشر فيها على الحدود بين البلدين.