العراق وأزمة الهُويّة الوطنية
في قلب الصراعات المستمرّة والمشاكل السياسية التي يعاني منها العراق، تبرز أزمة الهُويّة الوطنية بوصفها أحد التحديات الأكثر تعقيدًا وخطورة. فالعراق، بتركيبته الاجتماعية المتنوّعة التي تجمع بين العرب والكرد والتركمان والآشوريين، يشكّل نموذجًا للتعدّدية الثقافية التي يمكن أن تكون مصدر قوّة أو ضعف حسب كيفية إدارتها.
وتتجلّى إشكالية الهُويّة الوطنية في العراق في التوتّرات بين مختلف المكوّنات العرقية والدينية، حيث إنّ كلّ مجموعة تسعى للحفاظ على خصوصيّتها الثقافية والدينية، وهو ما يخلق ديناميات معقّدة في بناء الهُويّة الوطنية المشتركة. إنّ التعدّدية التي يمكن أن تكون مصدرًا للثراء والتنوّع نلاحظ أنها تتحوّل، في بعض الأحيان، إلى أداة للصراع والتقسيم، عندما يُنظر إليها على أنها تهديد للهُويّة الفردية أو الجماعية. هذا الصراع بين الهُويّة الفردية والجماعية يشكّل تحديًا عميقًا أمام مسألة الوحدة الوطنية. على سبيل المثال، النزاعات بين الأكراد والحكومة المركزية حول حقوق الحكم الذاتي تُبرز كيف يمكن أن تتصادم المطالب الفردية مع المصلحة الوطنية. بينما يرى الأكراد أنفسهم أمة ذات حقوق تاريخية، تنظر الحكومة المركزية إلى هذه المطالب كتهديد لوحدة البلاد، وهذا التناقض يعكس عدم التوازن في التعامل مع الهُويّة الوطنية وكيفية إدارتها. وإنّ الصراعات السياسية تساهم بشكل كبير في تعقيد مفهوم الهُويّة الوطنية. الأحزاب السياسية في العراق غالبًا ما تستغل التوتّرات العرقية والدينية لتحقيق مكاسب انتخابية، مما يزيد من تعميق الانقسامات، حيث يتم استغلال هذا التوتر، من خلال النظر إلى المكوّنات المختلفة كتهديدات بدلاً من شركاء في بناء الوطن.
الصراعات الإقليمية والعالمية تلعب أيضًا دورًا في تعميق أزمة الهُويّة، وهناك أيضًا التدخلات الخارجية، سواء من الدول المجاورة أو القوى الدولية، فهي تضيف أبعادًا جديدة للتوتّرات الداخلية. هذه التدخلات تُعقّد جهود بناء الهُويّة الوطنية الموحّدة، حيث تصبح الأولويات المحلية متشابكة مع الأجندات الخارجية.
إنّ بناء هُويّة وطنية شاملة يتطلّب جهدًا جماعيًا وإرادة سياسية حقيقية لمواجهة التحديات وتحقيق التفاهم والتلاحم في ظلّ التعدّدية
لبناء وحدة وطنية قويّة يجب تبني سياسات تعزّز من التعايش والتفاهم بين مختلف مكوّنات المجتمع، من خلال إعادة تعريف الهُويّة الوطنية بحيث تشمل كلّ المكوّنات وتحتوي على جوانب متنوّعة من الثقافة والعرق والدين. التعليم والتثقيف يلعبان دورًا أساسيًا في هذه العملية، إذ يجب أن تركّز المناهج التعليمية على تعزيز قيم التسامح والاحترام المتبادل وتجنّب تعميق الانقسامات. وكذلك تعزيز المشاركة العادلة لكلّ مكوّن في العملية السياسية يعزّز من الشعور بالانتماء ويقلّل من التوتّرات. إنّ بناء هُويّة وطنية متماسكة يحتاج إلى دعم اقتصادي أيضًا، حيث إنّ الأزمات الاقتصادية تساهم في تفاقم الانقسامات الاجتماعية. عندما يشعر المواطنون بالحرمان أو التمييز الاقتصادي، فإنهم يميلون إلى الانغلاق داخل هوياتهم الفرعية، ما يعمّق الأزمة الوطنية. لذلك، يجب أن تكون هناك سياسات اقتصادية عادلة تشمل جميع المناطق والمكوّنات العراقية.
الإعلام له دور بارز في تشكيل الهُويّة الوطنية أيضًا، إذ يمكن أن يسهم في الترويج لخطاب الوحدة والمواطنة المتساوية، أو يمكن أن يعمّق الانقسامات من خلال الخطابات الطائفية والمناطقية. يجب أن يكون هناك توجّه نحو إعلام وطني يعزّز الهُويّة المشتركة ويشجّع على التسامح والتفاهم بين المكوّنات المختلفة. علاوة على ذلك، فإنّ تعزيز الهُويّة الوطنية يتطلّب بناء مؤسّسات حكومية قوية وعادلة، حيث إنّ ضعف المؤسّسات يولّد الشعور بعدم الانتماء للدولة. عندما يشعر المواطنون بأنّ الدولة تحميهم وتضمن حقوقهم من دون تمييز، فإنّ ذلك يساهم في خلق شعور قوي بالانتماء للوطن. هناك أيضًا دور للمجتمع المدني في تعزيز الهُويّة الوطنية، إذ يمكن للمبادرات الثقافية والاجتماعية أن تساهم في تعزيز القيم المشتركة وتعزيز الحوار بين المكوّنات المختلفة.
من خلال التعليم والإعلام والاقتصاد والإصلاح السياسي، يمكن للعراق أن يسير نحو مستقبل أكثر استقرارًا ووحدةً
يجب دعم المشاريع التي تهدف إلى تعزيز التفاهم المشترك وإقامة فعاليات تجمع العراقيين بمختلف انتماءاتهم. أزمة الهُويّة الوطنية في العراق ليست مجرّد مسألة تعايش بين ثقافات مختلفة، بل هي أزمة تتعلّق بكيفيّة إدارة التنوع بطريقة تضمن الوحدة الوطنية. يتطلّب الأمر نهجًا يتجاوز التوتّرات الحالية ويعزّز القيم المشتركة التي تجمع بين العراقيين.
إنّ بناء هُويّة وطنية شاملة يتطلّب جهدًا جماعيًا وإرادة سياسية حقيقية لمواجهة التحديات وتحقيق التفاهم والتلاحم في ظلّ التعدّدية. من خلال التعليم والإعلام والاقتصاد والإصلاح السياسي، يمكن للعراق أن يسير نحو مستقبل أكثر استقرارًا ووحدةً، حيث تكون الهُويّة الوطنية جامعة لا مفرّقة، ومصدر قوة لا انقسام.