العراق ما بعد الأسد
في المؤتمر الصحافي الذي عقده وزراء خارجية العراق وإيران وسورية في بغداد (السادس من ديسمبر/ كانون الأول الجاري)، كان خطاب الوزير العراقي يحاول إمساك العصا من الوسط، فيعلن عن تقديم حكومة بلاده كلّ الدعم "الإنساني" لسورية، ولكن من دون أن يبدو في صفّ النظام السوري، ولم يقدّم التزامات واضحة تجاهه.
هذا الخطاب الضبابي، الذي يعكس أزمة داخلية لدى النخبة السياسية الحاكمة في العراق، يقابله خطاب واضح من وزير الخارجية الإيراني بدعم النظام السوري بكل الإمكانات المتاحة، واتهام الفصائل المعارضة بأنها مجموعات إرهابية، والغريب في هذا الخطاب أنه مألوف للمستمع والمتابع العراقي، وينطلق من قاموس معتاد تستخدمه شخصيات تنتمي إلى محور المليشيات الموالية لإيران في العراق.
كنا نسمع هذا الخطاب "الإيراني" على ألسنة عراقيين منذ سنوات، وبشكل خاص منذ اندلاع الأحداث أخيراً في سورية، ويغطّي على وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي العراقية، ويبدو معه الصوت الرسمي للحكومة العراقية خافتاً وغير مسموع. السبب في ضعف الصوت الرسمي العراقي، أو عدم تصدّره واجهة الأحداث، ينبع من محاولة الحكومة أن تمتصّ مجموع المواقف المختلفة، وألا تكون في حالة صدام مع رأي عراقي ضدّ آخر. هذه الوسطية المفترضة تجعل الحكومة في موقف حرج، فهي مطالبة من الجانب الإيراني بموقف أكثر اندفاعاً لدعم النظام السوري، سياسياً وعسكرياً، ليس في الأقلّ السماح للمليشيات العراقية بعبور الحدود إلى سورية. في الوقت الذي ينسحب فيه مستشارو الحرس الثوري الإيراني من الأراضي السورية.
غير أن الضرورات الوطنية الواقعية تجبر الحكومة العراقية على كبح هذا التوجّه الخطر، الذي يجعل العراقيين في مواجهة الشعب السوري وتطلّعاته للخلاص من ديكتاتورية النظام السوري. حتى الساعة، ما سوى التصريحات الحماسية لبعض الأطراف السياسية الشيعية المؤيدة للتدخّل في الشأن السوري، فإنه لم يصدر من العراق شيء رسمي في هذا الاتجاه، وتعزّز هذا الموقف تغريدةٌ جريئةٌ للسيد مقتدى الصدر حذّر فيها من التدخّل، وكذلك توصيات من كواليس مرجعية النجف، وقفت ضدّ رغبة أحد الفصائل المسلّحة بالتوجّه إلى سورية.
انتبهتْ كثيرٌ من التيّارات السياسية الشيعية، بما فيها التي لديها فصائل مسلّحة (على الأقلّ منذ المواجهة ما بين اسرائيل وحزب الله)، أن إيران غير مستعدّة لإنزال جندي واحد في الأرض، وأنها تريد من العراقيين وغيرهم أن يقاتلوا بدلاً منها. ولكن كيف يقاتل العراقيون الموالون لإيران والجيش السوري نفسه ينسحب ولا يقاتل، والمستشارون العسكريون الإيرانيون ينسحبون، وروسيا، الحليف الأبرز لنظام الأسد، لا تفعل شيئاً مهماً للوقوف أمام تقدّم فصائل المعارضة السورية؟
المنطقة الأعمق في الأزمة العراقية الداخلية أن نسبة كبيرة من الطبقة السياسية العراقية يسيطر عليها المنظور الطائفي وليس الوطني، وهي بشكل عام لا ترى مشكلةً مع استمرار نظام الأسد، على الرغم من الجرائم كلّها التي ارتكبها تجاه الشعب السوري، وإذ صار أمر سقوطه فجأة أمراً واقعاً ومحتملاً جدّاً، ارتبك السياسيون العراقيون، ودعا بعضهم الى تدعيم الجبهة الداخلية.
ولكن هذه الجبهة الداخلية مهلهلة أصلاً، بسبب القمع والتصفية وملاحقة الخصوم السياسيين، وفرض الأمر الواقع بقوّة السلاح، والطبقة السياسية الشيعية نفسها كانت متفرّجةً على تصفية المئات من المتظاهرين الشباب من المناطق والأحياء الشيعية الفقيرة، ووصمت هؤلاء المتظاهرين بأبشع الأوصاف، وخوّنتهم وأباحت دماءهم.
كما أن الخوف من سيطرة تيّارات سياسية إسلامية سنيّة على دمشق في مرحلة ما بعد الأسد، ينبع في المُعلَن من إمكانية أن تدخل سورية في فوضى تسهّل تكوين جماعات إرهابية تندفع إلى العراق مستقبلاً، كما حصل مع انموذج "داعش". ولكنّ المخفي في هذه المخاوف أن التغيير في سورية يؤدّي إلى ازدياد التفاؤل لدى سنّة العراق للسعي إلى إحداث تغيير في وضعهم الحالي داخل العملية السياسية في العراق.
هذه المخاوف كلّها يمكن تبريدها إذا وضعت الطبقة السياسية مصلحة العراق أولاً قبل كلّ شيء، وأن تحسّن من الأجواء السياسية داخل بغداد نفسها، وتلجم التطرّف وانفلات المليشيات، وترسل رسائلَ إيجابيةً إلى الشعب السوري، وأن العراق سيكون بلداً صديقاً لسورية ما بعد الأسد.