حول تعديلات قانون الأحوال الشخصية العراقي

العربي الجديد

حول تعديلات قانون الأحوال الشخصية العراقي

  • منذ 9 ساعة
  • العراق في العالم
حجم الخط:

لطالما كان العراق بلدًا متنوّعًا طائفيًّا وعرقيًّا ومذهبيًّا، وهذا التنوّع كان من المفترض أن يكون مصدر قوّة وغنى ثقافي. لكنه، للأسف، أصبح في السنوات الأخيرة نقمة على العراقيين. فمنذ غزو العراق في سنة 2003، تمّ إضعاف سلطة الدولة المركزية لصالح العشائر والطوائف والحوزات الدينية والمليشيات المسلّحة، بحيث توسّعت هذه السلطات على حساب مؤسسات الدولة، ما أدى إلى تفكّك النظام القانوني وتعزيز الطائفية بشكلٍ ممنهج ومقنّن.

فالطائفية في العراق لم تعد مجرّد ظاهرة اجتماعية فقط، بل اكتسبت شرعية قانونية وأصبحت جزءًا من النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية بين الأحزاب التي تُبنى على أسس مذهبية. ومن بين أبرز مظاهر هذه الطائفية المُقنّنة هي التعديلات الأخيرة التي تقدّم بها الإطار التنسيقي الشيعي في البرلمان العراقي لتعديل قانون الأحوال الشخصية النافذ منذ سنة 1959، والمستند على أسس الشريعة الإسلامية بشكل عام، من دون تمييز بين المذاهب أو الطوائف. وقد كان يُطبّق على جميع العراقيين بمختلف انتماءاتهم المذهبية والطائفية، مما جعله نموذجًا مقبولًا، على الرغم من نقائصه، إلا أنه كان محقّقًا لوحدة تطبيق القانون في بلد متعدّد الأديان والمذاهب.

ولقد جاء مقترح التعديل بناءً على نصّ مادة الدستور رقم 41 التي تؤكّد أنّ العراقيين أحرار في الالتزام بأحوالهم الشخصية بحسب الديانة والمذهب والمعتقد والاختيار. غير أنّ مقترح التعديل يقصر حرية الاختيار فقط على المذهب، ولم يضم بقية العناصر المختلفة، الأمر الذي يجعل من هذا المقترح في صياغته الحالية متعارضًا مع نصّ المادة 41 وتراتبية القوانين وعلوية القاعدة الدستورية.

وتُعتبر التعديلات المقترحة ترسيخًا للطائفية ولتقسيم بنيان المجتمع العراقي إلى فسيفساء مذهبية متعدّدة، الأمر الذي من شأنه أن يُضعف وحدة تطبيق القوانين ويُقوّض من سلطة الدولة المدنية، باعتبارها تقوم على اعتبار المواطنة لا المذهب والطائفة، مقابل فتح المجال لسلطة الدواوين الدينية، سواء السنية أو الشيعية منها، على إحكام قبضتها على سلطة الدولة في مادة الأحوال الشخصية، ومنازعتها للسلطات العامة في اختصاصها.

الطائفية في العراق لم تعد مجرّد ظاهرة اجتماعية فقط، بل اكتسبت شرعية قانونية وأصبحت جزءًا من النظام السياسي القائم على المحاصصة الطائفية

عن طريق تخويل الديوان السني والشيعي سلطة إبرام عقود الزواج، وما على المحكمة إلا التصديق على العقد، ومن ثم إضعاف السلطة القضائية، باعتبار أن ديوان الوقف السني والشيعي تابعان للسلطة التنفيذية. علاوة على أنّ هذه التعديلات ستساهم في زيادة نسبة الأميّة وزواج القاصرات والتسرّب المدرسي في صفوف الأطفال، خاصة البنات، باعتبارها تجيز تزويج الفتيات القاصرات قسريًّا في عمر تسع سنوات ما دام أنّ المذهب الذي تنتمي إليه تلك القاصر يجيز ذلك، بل يعتبره أمرًا شرعيًّا، على الرغم من أنه يخالف مقاصد الدين.

مع امتلاك المأذون الشرعي سلطة تقدير ما إذا كانت الفتاة القاصر أهلًا للزواج أم لا، وهذا فيه تعدٍّ على صلاحيات القاضي. بحيث سيعمل هذا التعديل على مضاعفة مخلفات الفلتان الأمني الذي مرّ به العراق في السنوات الأخيرة وما راكمه من نسب فقر وأمية مرتفعة. وكذلك السماح بالزواج خارج إطار المحكمة ومن دون تحديد لأيّ شروط قانونية واجبة.

ويتم إبرام تلك العقود من قبل شخصيات دينية، وبعضها تكون لمدّة مؤقتة، مما يجعلها غير قانونية بموجب قانون الأحوال الشخصية العراقي الحالي. كما أنها لا تضمن حقوقًا للزوجات في حال وقوع الطلاق، ولا يعترف بنسب الأطفال. ومن ثم، فإن هذه التعديلات يمكن أن تُضفي الشرعية على هذا النوع من الزواج. مع سماحه وشرعنته لزواج المتعة، أي الزواج المؤقت ليوم أو يومين مثلًا وبحسب الاتفاق مقابل مبلغ من المال.

فإنّ القاعدة الأساسية التي بُني عليها مفهوم العائلة منذ آلاف السنين تتعرّض للتدمير المبرمج، وعلى هاتين القاعدتين الطارئتين تستند عملية إلغاء الأسرة. ومن بين التعديلات المقترحة المثيرة للجدل كذلك هي تلك التعديلات المتعلّقة بالميراث، والتي تنتهك حقّ المرأة في الميراث والمقرّر نصًّا في القرآن الكريم، بحيث يجيز هذا التعديل حرمان المرأة التي يتبع زوجها للمذهب الشيعي من حقها في ميراث الأطيان أو الأراضي إذا كان ذلك المال الوحيد الذي تركه زوجها.

ويتعداه كذلك للحرمان من حقّ المرأة في حضانة أطفالها، وذلك بحسب المذهب الذي يتبع إليه الزوج، فمدّة حضانة الأم لطفلها تختلف بين مذهب وآخر. الأمر الذي يناقض نص قانون الأحوال الشخصية الحالي، الذي ينصّ على أن حضانة الطفل تدور وجودًا وعدمًا مع مصلحته الفضلى، سواء كانت مع الأمّ أمْ مع الأب.

أما هذا التعديل المُقترح فيضرب بمصلحة المحضون عرض الحائط، ويحرم القاضي من سلطته في تقدير تلك المصلحة، ويجعل دوره يقتصر فقط على تطبيق أحكام أو فتاوى مذهب المتقاضين. وهكذا تنقلب الموازين والمراكز القانونية، وبدل أن يصبح العامة ملزمين بأحكام القاضي، يصبح الأخير هو الملزم بأحكام الحوزات والدواوين المذهبية، وتطغى غلبة النص الفقهي على سلطة النص القانوني الإلزامي.

من شأن إقرار هذه التعديلات المساس بمبدأ المساواة المنصوص عليه في الدستور

ومن شأن إقرار هذه التعديلات المساس بمبدأ المساواة المنصوص عليه في الدستور، في حالة الزواج المختلط الذي تُطبّق فيه أحكام الزوج من دون الزوجة، ففي هذه الحالة تُحرم الزوجة من تطبيق أحكام المذهب الذي تنتمي إليه.

وفي سياق متصل، فإنّ مشروع هذا التعديل يتعارض مع التزامات الدولة العراقية أمام المجتمع الدولي، إذ قام العراق بالانضمام إلى العديد من اتفاقيات حقوق الإنسان الدولية، من بينها اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضدّ المرأة، واتفاقية حقوق الطفل، والعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية.

في المحصلة النهائية، يمكن اعتبار أنّ هذه التعديلات المقترحة من شأنها أن تُثير مخاوف جدية تتجاوز الإطار القانوني لتصل إلى تهديد وحدة المجتمع العراقي واستقراره. وعليه، فإنّ إقرار هذا المشروع لا يهدّد الأسرة العراقية فحسب، بل يُضعف ركائز السلم الاجتماعي، ويفتح الباب أمام تفكيك الهوية الوطنية لصالح هويات فرعية تُعيد العراق إلى الانتماءات الطائفية والعشائرية، بحيث يكون الانتماء الأوّل والأخير إلى الطائفة أو المذهب، في وقتٍ تتطلّب فيه المرحلة تعزيز الوحدة الوطنية ومبادئ المواطنة. 



عرض مصدر الخبر



تطبيق موسوعة الرافدين




>