أربيل وبغداد ومسألة الرواتب

العربي الجديد

أربيل وبغداد ومسألة الرواتب

  • منذ 9 ساعة
  • العراق في العالم
حجم الخط:

في صميم الجغرافيا العراقية الملتهبة حيث تتشابك السياسة مع الاقتصاد، تُنسج قصّة أزمة رواتب إقليم كردستان بخيوطٍ مُتشابكة من التصريحات المتضاربة والمواقف المتباينة. منذ أشهر، تصدرت هذه الأزمة المشهد السياسي والاقتصادي في البلاد، وأصبحت محور حديث الشارع. لكن وسط كلّ هذا الضجيج، يبدو أنّ الحقيقة تضيع، ويبقى السؤال: ماذا يحدث حقًا في هذا الملف الشائك؟

الأزمة في بدايتها: الشرارة الأولى

بدأت القصة في الأشهر الأخيرة من عام 2024، عندما بدأت حكومة بغداد بتخفيض تمويلاتها الشهرية لإقليم كردستان. وفقًا لرواية حكومة الإقليم، تحتاج الرواتب إلى 995 مليار دينار عراقي شهريًا لتغطية مستحقات الموظفين، المتقاعدين، قوات البشمركة، والرعاية الاجتماعية. لكن الواقع جاء مختلفًا؛ ففي أكتوبر/ تشرين الأوّل، أرسلت الحكومة الاتحادية في بغداد 760 مليار دينار فقط، ما اضطر الكرد إلى تغطية العجز باستخدام إيراداتهم الداخلية غير النفطية.

في الشهر التالي، نوفمبر/ تشرين الثاني، انخفضت التمويلات أكثر إلى 630 مليار دينار، وهنا بدأت الأزمة تتفاقم. ثم جاء ديسمبر/ كانون الأوّل بمفاجأة غير سارة، حيث أرسلت العاصمة المركزية 441 مليار دينار فقط، وهو مبلغ بعيد عن تلبية احتياجات الرواتب. مع هذا التراجع الكبير، وجدت حكومة الإقليم نفسها أمام معضلة: كيف يمكنها دفع رواتب الموظفين؟

راتب ديسمبر: محور الأزمة

تدور القصّة برمتها حول راتب شهر ديسمبر/ كانون الأوّل فقط. تقول حكومة الإقليم إنها لا تستطيع صرف الرواتب جزئيًا، لأنها إن فعلت، فسيبقى 25% من الموظفين من دون أيّ مستحقات. كان العجز المطلوب لتغطية الرواتب في هذا الشهر 250 مليار دينار فقط. مبلغ بسيط نسبيًا، لكنه تسبّب في أزمةٍ سياسية واقتصادية كبيرة.

الأمر لم يتوقف عند هذا الحد. بغداد تقول إنها أرسلت 11.5 تريليون دينار خلال عام 2024 لتغطية رواتب الإقليم، بينما تؤكد أربيل أنّ ما وصل فعليًا لا يتجاوز 10.6 تريليونات دينار، بعد استقطاع 600 مليار دينار توقيفات تقاعدية. تضارب الأرقام هذا يعكس فجوة واضحة في التفاهم بين الطرفين، ويزيد من تعقيد الأزمة.

إيرادات غير نفطية: تساؤلات بلا إجابات

الإيرادات غير النفطية كانت دائمًا عنصرًا مثيرًا للجدل في العلاقة بين المركز وأربيل. تقول بغداد إنّ الإقليم جمع أربعة تريليونات دينار إيرادات غير نفطية في عام 2024، لكنه لم يسلمّ سوى 360 مليار دينار. أربيل، من جهتها، تبرّر الأمر بأنّ الاتفاق على تسليم الإيرادات غير النفطية بدأ فقط في مايو/ أيار 2024، وبالتالي لا يُفترض احتساب الأشهر الخمسة الأولى من العام.
أزمة الرواتب ليست مجرّد مسألة أموال، بل هي اختبار حقيقي لقدرة الساسة على تجاوز خلافاتهم من أجل مصلحة المواطن
تضيف حكومة كردستان أنّ الاتفاق ينصّ على تسليم نصف الإيرادات فقط، وليس كلها. لكن مع تزايد الضغط المالي، توقفت حكومة الإقليم عن إرسال نصف الإيرادات غير النفطية منذ أكتوبر/ تشرين الأوّل، واستخدمتها بدلًا من ذلك لتغطية العجز في الرواتب.

النفط: العصب الحساس في الأزمة

الإيرادات النفطية تمثل محورًا آخر في النزاع. منذ توقف تصدير النفط من كردستان، لم تعد بغداد تتلقى أيّ عائدات نفطية من الإقليم. وفي ظلّ هذا التوقف، لجأت الشركات الأجنبية العاملة في كردستان إلى تهريب النفط أو بيعه لمقاولين، من دون أن تصل هذه الأموال إلى خزينة حكومة الإقليم. تشير تقارير إلى أنّ بعض هذه الشركات والمقاولين تربطه علاقات مع الأحزاب الحاكمة في الإقليم، ما يعمّق الشكوك حول شفافية إدارة ملف النفط، ويثير تساؤلات حول وجهة هذه الأموال.

ما هي حصّة كردستان؟

تبلغ حصّة كردستان من الموازنة الاتحادية 21 تريليون دينار. لكن مع توقف تصدير النفط، اقتصرت التحويلات من المركز على الرواتب فقط. الحكومة الاتحادية تقول إنّها موّلت الإقليم عام 2024، بينما تصرّ أربيل على أنّ ما وصل فعليًا أقل من ذلك بكثير.

هذه الأرقام المتضاربة تزيد من تعقيد المشكلة وتفتح الباب أمام تساؤلاتٍ حول آليات توزيع الأموال ومدى التزام الطرفين بتنفيذ بنود الموازنة.

زيارة نيجيرفان بارزاني: بصيص أمل أم استمرار للأزمة؟

وسط هذه الفوضى، جاء رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني إلى بغداد في يناير/ كانون الثاني 2025. التقى بارزاني برئيس مجلس النواب ورئيس مجلس القضاء الأعلى وعدد من القيادات السياسية، ودعا إلى تعديل قانون الموازنة بما يضمن "العدالة" في توزيع الحقوق المالية للإقليم وتأمين الرواتب.
الحل يحتاج إلى إرادة سياسية جادة وإجراءات شفافة، حتى لا يتحوّل هذا النزاع إلى نموذج آخر من الأزمات التي يدفع المواطنون ثمنها

زيارة بارزاني لم تكن مجرّد محاولة لحلّ أزمة الرواتب، بل سعت أيضًا لمعالجة قضايا أعمق تتعلّق بالعلاقة بين الإقليم والحكومة الاتحادية، مثل الشفافية في إدارة الموارد وآليات تنفيذ الاتفاقات المالية.

الحقيقة الضائعة في خضم السياسة

تبدو أزمة الرواتب انعكاسًا لخلل أكبر في العلاقة بين بغداد وأربيل. التصريحات المتبادلة التي اتسمت بالحدّة والتناقض لم تقدّم صورة واضحة للمتلقين، بل ساهمت في تضليلهم أكثر. القضية لم تعد فقط حول عجز رواتب شهر واحد، بل أصبحت رمزًا للخلل في العلاقة بين الإقليم والمركز، في ظلّ غياب الشفافية وغياب رؤية واضحة لتحقيق العدالة المالية بين الطرفين.

من يدفع الثمن؟

في حين يتجادل السياسيون ويتبادلون الاتهامات، يظلّ المواطن الكردي هو الضحية الأكبر لهذا الصراع. الموظفون ينتظرون رواتبهم اشهراً، والخدمات تتدهور يومًا بعد يوم، والمستقبل يبدو أكثر غموضًا.. كلّ ذلك يعكس ثمن الصراع بين أربيل وبغداد. أزمة الرواتب ليست مجرّد مسألة أموال، بل هي اختبار حقيقي لقدرة الساسة على تجاوز خلافاتهم من أجل مصلحة المواطن. الحل يحتاج إلى إرادةٍ سياسيّةٍ جادة وإجراءات شفافة، حتى لا يتحوّل هذا النزاع إلى نموذج آخر من الأزمات التي يدفع المواطنون ثمنها.

حتى ذلك الحين، يبقى السؤال مطروحًا: هل يستطيع الطرفان تجاوز الماضي والعمل على بناء مستقبل أفضل، أم أنّ هذه الأزمة ستظلّ جزءًا من حلقةٍ مفرغة من الخلافات؟



عرض مصدر الخبر



تطبيق موسوعة الرافدين




>