هواء "كبريتي" يفاقم الأمراض التنفسية في بغداد
تُعدّ مشكلة التلوث البيئي أحد أبرز التحديات التي تواجه العراق منذ عقود، وتفيد تقارير محلية ودولية بأن العاصمة بغداد إحدى أكثر المدن تلوثاً في العالم، ويمتد تأثير التلوث إلى المواطنين الذين يواجهون الانعكاسات الخطيرة للظاهرة على صحتهم العامة.
تحدد إحصاءات معدلات جزيئات "بي إم 2.5" الدقيقة في العراق أنها تتجاوز بكثير المعايير التي توصي بها منظمة الصحة العالمية. ومن بين الأضرار الكثيرة التي يعانيها العراقيون من تلوث الهواء، الارتفاع الكبير في معدلات الأمراض المرتبطة بالجهاز التنفسي، مثل الربو والتهاب الشعب الهوائية وأمراض الرئة المزمنة، بحسب ما يذكر الطبيب المتخصص في الأمراض الصدرية فؤاد العيساوي لـ"العربي الجديد"، والذي يؤكد الارتفاع المتزايد الذي تشهده مدن العراق في الإصابات بأمراض خطرة بسبب تداعيات الأمراض الصدرية لمن يعانون ضيقاً في التنفس والربو وحساسية المجاري التنفسية.
وتوضح أرقام وفرها مسؤولون في وزارة الصحة لـ"العربي الجديد" أن عدد المصابين بأمراض تنفسية حادة الذين راجعوا المستشفيات والمراكز الصحية وصل إلى ضعفي معدل عام 2022. وفي نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي توجه أكثر من 10 آلاف مواطن في يوم واحد إلى مستشفيات ومراكز صحية ببغداد نتيجة معاناتهم صعوباتٍ في التنفس وأزمات ربو حادة مرتبطة بتلوث الهواء.
ورغم أنه لا توجد إحصاءات حول عدد المصابين بأورام سرطانية جراء استنشاق الهواء الملوث في العراق، يؤكد الطبيب العيساوي أن عدد المصابين بهذه الأمراض يرتفع نتيجة التعرض الطويل للهواء الملوث. وتفيد تقارير رسمية بأنه جرى تسجيل 43 ألف إصابة بالسرطان في عموم العراق عام 2023، مقابل أكثر من 39 ألف إصابة في العام السابق.
لا تتوقف تداعيات التلوث عند الصحة العامة فقط، بل تطاول البيئة في شكل أوسع. وسبّبت الأنشطة الصناعية العشوائية وتدمير الأراضي الزراعية تدهور التنوع البيولوجي وفقدان الموائل الطبيعية لكثير من الكائنات الحية، بحسب ما يذكر الخبير الزراعي المهندس حسن المنصوري لـ"العربي الجديد".
ويفاقم تلوث البيئة التأثيرات السلبية على القطاع الزراعي المحلي، بحسب ما يقول المنصوري الذي يوضح أن تدهور جودة التربة والمياه نتيجة للتلوث الصناعي والإهمال البيئي يعرضان المحاصيل الزراعية للخطر. وهو يؤكد أن استمرار تلوث الهواء بالمواد الكيميائية أحد أسباب تردي الإنتاج الزراعي الذي يعاني أساساً التغيّرات المناخية.
وكانت العاصمة العراقية بغداد تصدرت قائمة المدن الأكثر تلوثاً في العالم، وفقاً لأحدث مؤشر لجودة الهواء، ما يضع العراق في دائرة الضوء باعتباره أحد أكثر البلدان تأثراً بمشكلة تلوث الجو. وبحسب التقارير يسجل التلوث في بغداد معدلات قياسية تفوق المعايير العالمية الآمنة، في وقت تؤكد السلطات أنها تواصل مساعيها لإيجاد حلول للمشكلة، وتتحدث عن أنها أغلقت منذ أكتوبر/ تشرين الأول الماضي 170 منشأة صناعية وزراعية سبّبت تلوثاً كبيراً للهواء. لكن متخصصين يصفون هذه الإجراءات بأنها "غير كافية في حال عدم وضع سياسات طويلة الأمد تقلل الانبعاثات السامة وتحسّن إدارة النفايات وتعزز استخدام الطاقة النظيفة".
ويقول الخبير البيئي عمر عبد اللطيف، عضو مرصد العراق الأخضر، لـ"العربي الجديد"، حول تصدّر بغداد مدن العالم على صعيد المؤشر الأسوأ لجودة الهواء: "ليست بغداد الأعلى دائماً في مؤشر تلوث الهواء، لكنها تحتضن غالبية أسباب وجود الظاهرة وتفاقمها، وأهمها انتشار المباني الكونكريتية داخلها وفي محيطها، واستخدام محروقات النفط الأسود بدلاً من تلك التي تؤثر في شكل قليل على الجو. ومنذ أكثر من شهر تنتشر روائح تشبه الكبريت فيها، وهي خطيرة جداً لأنها تركيبات كيميائية ملوثة خطرة على حياة الإنسان، وقد تسبب سرطانات".
يتابع: "من بين الأسباب الأخرى التي تفاقم أزمة التلوث غياب المساحات الخضراء، خصوصاً مع تحويل مساحات زراعية وفضاءات داخل بغداد ومحيطها إلى مدن لتقليص أزمة السكن علماً أن عدد سكان بغداد قد يصل إلى 10 ملايين خلال العامين المقبلين، وهو أكثر من 9 ملايين حالياً. ومن الأسباب أيضاً عوادم السيارات ومولدات الكهرباء التي تنتشر داخل الأحياء السكنية، يبلغ عدد السيارات والمولدات في بغداد 4 ملايين. يضاف إلى ذلك معامل صناعة الطابوق شرقي وجنوبي العاصمة التي تنفث عوادمها مواد سامة، ونحن نشيد بإغلاق الجهات المسؤولة أكثر من 100 من هذه المعامل".
وتردد أخيراً أن التلوث سببه مصفاة الدورة في بغداد التي تعتبر من أكبر مصافي النفط في العراق، لكن الخبير البيئي ينفي علاقة المصفاة بالتلوث بدليل أن تأثيراته لا تنحصر داخل العاصمة، بل تمتد إلى مدن بعيدة".
ويرى أن "السنوات المقبلة ستكون صعبة على العراق في حال لم تتخذ الجهات المسؤولة حلولاً مناسبة. ونحن نستغرب بُطء الإجراءات الحكومية، رغم أن العراق من بين أكثر خمس دول هشاشة في موضوع المناخ". وكان مؤتمر "كوب 29" الذي عُقد في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي في العاصمة الأذربيجانية باكو، خصص 30 مليون دولار للعراق لمعالجة قضايا المناخ.