تصاعد الانتهاكات ضد الصحافيين في العراق
يشتكي صحافيون ومدونون عراقيون من انخفاض سقف الحريات في البلاد إلى درجة غير متوقعة في السنوات الأخيرة، عبر أساليب وطرق مختلفة تنتهجها السلطات والأحزاب والفصائل المسلحة، مما جعلهم أمام خيارين: الحفاظ على راحتهم وأمنهم ومصدر رزقهم، أو مواجهة المتاعب التي قد يجلبها عليهم عملهم الصحافي. تعرض الصحافيون في العراق خلال السنوات الأخيرة إلى تهديدات لفظية، مروراً بالإبعاد عن العمل، والحرمان من حضور المؤتمرات والتغطيات الصحافية، وانتهاء برفع دعاوى قضائية ضدهم تختتم بإدانتهم وتغريمهم بمبالغ مالية كبيرة.
ويرى عضو بارز في نقابة الصحافيين العراقيين أن حرفة الصحافة الاستقصائية تعرضت إلى انتكاسة غير مسبوقة في البلاد، خاصةً أن الصحافيين يخشون فتح ملفات الفساد أو الانتهاكات الحقوقية، أو المخالفات الإدارية، وغيرها. مصير من يقدم على فتح مثل هذه العناوين والبحث فيها إما الموت أو التهديد ثم الفرار من مكان سكنه. يضيف الصحافي النقابي الذي فضل عدم الكشف عن هويته، بسبب "توجيهات النقابة لأعضائها"، أن "واقع الصحافة في العراق اليوم يجعل من الصعب القول إن هناك صحافياً مستقلاً ناشطاً وفاعلاً، إذ إن غالبية المستقلين البعيدين عن الأحزاب والفصائل والحكومة لم يعد لهم ذكر بالغالب".
ويشير إلى أن الصحافيين صاروا يفضلون راحتهم وتجنب المتاعب، لأن أي موضوع أو طرح لا يعجب القوى السياسية الفاعلة، أو الحكومة، أو الفصائل المسلحة، يعني أنه أدخل نفسه بأحد الأمور الثلاثة، إما التهديد، أو المقاضاة والغرامة، أو الاستهداف بإقصائه من عمله من خلال نفوذ تلك الجهات، أو بحرمانه من أي تغطية أو نشاط، وبالتالي التضييق عليه مهنياً. وهو ما يلعب دوراً رئيسياً في عودة ظاهرة الأسماء الوهمية للصحافيين والكتاب، كما كان الحال بين العامين 2003 و2009 إبان الغزو الأميركي للعراق.
خلال الأسابيع الماضية، شهدت البلاد عدة اعتداءات على صحافيين عراقيين في الموصل وبغداد وديالى وواسط والبصرة، على يد فصائل مسلحة ومرافقين لمسؤولين محليين. كما دين عدة صحافيين وكُتّاب بغرامة مالية تعادل نحو 4 آلاف دولار، إلى جانب طرد صحافي بارز في التلفزيون الحكومي العراقي، بعد ترحيبه بسقوط نظام بشار الأسد وتأييده لذلك.
ويشير صحافيون ومدونون بأحاديث لـ"العربي الجديد" إلى تلقيهم تحذيرات مباشرة تدعوهم إلى التوقف عن تناول قضايا حساسة، وهو ما يفرض عليهم استخدام أسماء وهمية للتطرق إلى ملفات تتعلق بالسرقات والاختلاسات والرشاوى وعمليات فساد مختلفة عبر طرق غير مباشرة. بناء على هذا، يعبر ناشطون وكتاب عن قلقهم من أن تؤدي هذه السياسات إلى إفراغ الساحة الإعلامية من الأصوات المستقلة، مما يقوض حرية التعبير في البلاد.
ويكشف مراسل قناة الفلوجة، علي عبد الكريم، عن معاناته من تهديدات وملاحقات قانونية نتيجة تغطيته قضايا الفساد وانتهاكات حقوق الإنسان في العراق. يقول عبد الكريم إنه في ظل بيئة تعاني من قيود شديدة، يدفع الصحافيون العراقيون ثمناً باهظاً لممارستهم مهنتهم. يضيف: "واجهت تهديدات مباشرة وغير مباشرة بسبب عملي، إلى جانب دعاوى قضائية، كان آخرها من إحدى الوزارات بتهمة التشهير لمجرد نشري حقائق عن تجاوزات حكومية". ويؤكد أن هذه ليست المرة الأولى التي يواجه فيها ملاحقات قانونية، مشيراً إلى تعرضه لدعاوى مماثلة في إقليم كردستان شمالي البلاد، فضلاً عن تلقيه تهديدات مستمرة دفعته إلى حذف منشوراته على مواقع التواصل الاجتماعي، ونشر تقارير من دون اسمه خوفاً من الملاحقة. ويشير إلى أنه هو وزملاءه يمرون بإحدى أصعب فترات القمع منذ عام 2003، لافتاً إلى أن "القانون أصبح يُستخدم أداة لقمع الأصوات الحرة إلى جانب التهديدات الأمنية"، مما يجعل ممارسة الصحافة الحرة مغامرة قد تؤدي إلى السجن أو النفي أو حتى الموت، على حدّ قوله.
تعكس تجربة عبد الكريم واقعاً متزايد الصعوبة للصحافيين في العراق، حيث تُستخدم الملاحقات القانونية والترهيب كأدوات لإسكاتهم، ما يثير تساؤلات حول مستقبل حرية الصحافة في البلاد.
يرى كثيرون أن نقابة الصحافيين العراقيين لا تؤدي دورها في الوقوف إلى جانب الصحافيين، ومن بينهم المصور سعد الله الخالدي الذي تعرض لتهديدات وملاحقات عديدة بسبب كشفه ملفات فساد وانتهاكات موثقة بعدسته. يقول الخالدي، لـ"العربي الجديد"، إنه بات يتجنب نشر أي موضوع قد يعرضه للخطر، مشيراً إلى أن الظروف الأمنية والقانونية التي تحيط بالعمل الصحافي تجبر الكثيرين على ممارسة الرقابة الذاتية خوفاً من العواقب. يُحمّل نقابة الصحافيين "المسؤولية الكاملة" عن المخاطر التي يواجهها العاملون في الصحافة والكتّاب، منتقداً "عدم قيامها بدورها في الدفاع عنهم في مواجهة المضايقات أو الملاحقات القضائية".
يكشف تقرير صدر أخيراً عن جمعية الدفاع عن حرية الصحافة في العراق عن انتهاكات فظيعة ضد الصحافيين العراقيين خلال العام 2024. إذ شهدت هذه الفترة 457 انتهاكاً ضد الصحافيين، من بينها قتل خمسة صحافيين، وتعرض صحافي لإصابة بالغة، إضافةً إلى ضرب 16 آخرين، واعتقال 23، واحتجاز 11، وتعرض سبعة آخرين إلى هجمات مسلحة. يفضل العديد من الصحافيين الذين تعرضوا للانتهاكات عدم إعلان ذلك، ويختار بعضهم إخفاء هوياتهم، وكذلك هوية الجهات التي تعرضت لهم، وهو ما يجعل الأرقام التي تُعلن أقل من الحقيقية.
يؤكد ذلك المدون حسن الساعدي الذي يقول لـ"العربي الجديد" إنه تعرض لتهديدات انتهت باعتداء جسدي من قبل مسلحين، بعد نشره مقطع فيديو يتهم فيه جهة لها نفوذ داخل البلاد بالحصول على إتاوات من خلال شركات وتجار عبر مسلحين تابعين لها. يقول الساعدي (اسم مستعار) إنه تعرض في البداية لتهديد شفهي من شخص ملثم اعترضه ليلاً وحذّره من الاستمرار في نشر مثل هذه المواضيع، لكنه لم يبالِ بالتهديد. وبعد أيام، تعرض لاعتداء مبرح من قبل مسلحين مجهولين، تخلله تهديد مباشر باستهداف أطفاله في حال استمر بنشر معلومات تفضح جهات نافذة. ويشير المدون إلى أنه اضطر تحت وطأة التهديد إلى حذف عدد من منشوراته والتوقف عن نشر أي محتوى يتناول قضايا فساد أو تجاوزات من قبل جهات تمتلك نفوذاً في البلاد.
يرى الساعدي وغيره من الصحافيين والكتاب والمدونين أن الجهات المتهمة بقضايا تخالف القانون، تفضل استخدام القوة لإسكات المنتقدين بدل اللجوء للقضاء. أما الجهات والشخصيات التي تلجأ إلى القضاء لمواجهة منتقديها، فتستفيد من فقرات قانونية معينة، رغم وجود مطالبات بتغييرها لتعارضها مع حرية الرأي. وخلال الشهرين الماضيين شهدت المحاكم عدة قضايا بحق صحافيين مشهورين، ففي ديسمبر/ كانون الأول الماضي جرى تغريم الصحافي قيس حسن مبلغاً مقداره خمسة ملايين دينار، في دعوى أقامها ضده رئيس الوزراء السابق مصطفى الكاظمي، بتهمة "الإساءة والتشهير". كذلك، شهد ديسمبر توقيف برنامج يقدمه المذيع صالح الحمداني في قناة العراقية الحكومية وأنهيت خدماته بعد تغريدة عن الأوضاع في سورية والعراق. كما أقام رئيس الوزراء محمد شياع السوداني دعويين قضائيتين ضد الصحافيين أحمد الملا طلال وزينب ربيع بتهمة الإساءة. أما في يناير/ كانون الثاني الماضي، فقد اعتقل المذيع علي الخيال من قناة البغدادية بتهمة التشهير بالحكومة.
وكانت منظمة مراسلون بلا حدود قد نبهت إلى أنه على الرغم من أن الدستور يكفل حرية الصحافة نظرياً في العراق، لكن القوانين المعمول بها تتعارض مع بعض مواده، لافتةً إلى أن الشخصيات العامة غالباً ما تلجأ إلى المحاكم لمقاضاة الصحافيين الذين يحققون في أنشطتهم، وعادةً ما تكون الملاحقة بتهمة التشهير.
من جهته، يرى الصحافي عمار جاسم، في حديث مع "العربي الجديد"، أن "القضاء العراقي أنصف الكثير من الصحافيين والناشطين، لكنه لا يتمكن من أن يحمي من ينصفهم خارج أسوار القضاء". كما يلفت إلى أن العديد من الصحافيين لا يجرؤون على رفع دعاوى. إذ على الرغم من تأكدهم أن القضاء سيقف إلى جانبهم، لكن الخطر سيلاحقهم في الشارع أو حتى في بيوتهم. يضيف: "أنا أحد هؤلاء. اتجنب نشر بعض الحقائق التي تتصل بجهات وشخصيات لها نفوذ في البلد. نحن هنا نعرف جيداً عواقب نشر بعض المعلومات التي تصل إلى حد القتل".
وأكد رئيس محكمة النشر والإعلام التابعة للقضاء الأعلى عامر حسن، في تصريح لوكالة الأنباء العراقية، أن دور مجلس القضاء الأعلى "يتضمن إيجاد آلية تضمن حماية حرية التعبير عن الرأي وترسيخ الحرية، وتضمن عدم استخدام الدعاوى التي تقام ضد الصحافيين كسلاح لتقييد الحرية".
في هذا الشأن يقول الأستاذ في كلية الإعلام بالجامعة العراقية، الدكتور واثق عباس، لـ"العربي الجديد"، إن "ملف الحريات وحق الحصول على المعلومة في العراق ما يزال يراوح مكانه، رغم مرور أكثر من عقدين على التغيير السياسي في عام 2003، والذي شهد انفتاحاً ديمقراطياً سمح للصحافيين بتخطي بعض الخطوط الحمراء، لكن من دون المساس بخطوط أخرى قد تهدد حياتهم".
ويواجه مشروع قانون حرية الصحافة في العراق رفضاً واسعاً من قبل الصحافيين والمدونين والناشطين، الذين يرون أنه يهدد حرية التعبير ويمنح السلطات صلاحيات واسعة لتقييد الإعلام. يؤكد المعارضون أن القانون يتضمن مواد فضفاضة تتيح محاسبة الصحافيين على قضايا رأي، فضلاً عن فرض عقوبات قاسية. في المقابل، تدافع الجهات الرسمية عن القانون باعتباره خطوة لتنظيم العمل الإعلامي وحماية الصحافيين، علماً أن البرلمان لم يصوت على القانون حتى الآن، وسط دعوات لمراجعته أو إلغائه.
ينصح عباس، الصحافيين بوجوب أن يكونوا محاطين بمعلومات دقيقة وسرية تامة، مع ضرورة أن تكون مصادرهم محمية، وذلك لتلافي تعرضهم للخطر، مشيراً إلى أن "العراق فقد عدداً كبيراً من الصحافيين الذين ربما اندفعوا في نشر معلومات حساسة من دون اتخاذ الاحتياطات اللازمة". ويشير الأستاذ الجامعي إلى أن جميع قضايا الفساد الكبرى في مختلف القطاعات العراقية يتم الكشف عنها من قبل صحافيين خارج البلاد، وذلك "لأن الصحافيين المحليين يواجهون مخاطر كبيرة تمنعهم من الخوض في تلك الملفات". ويوضح أن العراق شهد منذ 2003 مقتل أو اختفاء أكثر من 500 صحافي، من دون معرفة الجهات التي تقف وراء هذه الجرائم، في ظل غياب أي تحقيقات جدية تكشف عن الجناة.
بدوره، يؤكد المحلل السياسي، شاكر كتاب، أن أي تحسن في وضع الحريات في العراق يستلزم معالجة العوامل العميقة التي أدت إلى تقييدها، مشيراً إلى أن التضييق على الحريات في البلاد يعود إلى جذور ثقافية ومفاهيم مغلوطة حول الدولة والسلطة لدى الفئات الحاكمة. ويوضح كتاب لـ"العربي الجديد" أن "الحكومة تتعامل مع القضايا المرتبطة بالحريات من منطلق الحفاظ على السلطة، من دون الاهتمام بمفهوم الدولة ومؤسساتها، معتبرة أن أي إجراءات تُتخذ في هذا الإطار مشروعة أو على الأقل مبررة". ويشير إلى أن هناك خلطاً بين الأمن القومي وأمن السلطة، ما يؤدي إلى اتهام المعارضين أو المخالفين بارتباطات إرهابية أو خارجية، وهو ما يعرض الناشطين الإعلاميين والسياسيين لمخاطر حقيقية. كذلك، يلفت إلى أن السلطات تستخدم جميع الأدوات المتاحة، بما فيها الأجهزة الأمنية والقانونية والإدارية، لمواجهة الأصوات التي تعتبرها شاذة أو خارجة عن الخط الرسمي.
وفي المقابل، يدعو كتاب إلى الإنصاف في تقييم المشهد الإعلامي، لافتاً إلى أن بعض الإعلاميين لا يوظفون منابرهم بشكل مهني، بل يستخدمونها أحياناً بطريقة غير سليمة، تتقاطع مع آداب الحوار وأصول نقل الحقيقة، مما يثير تحفظات المواطنين ويجعلهم عرضة لإجراءات حكومية مشددة.